تحرير محل نزاع الفقهاء مع الفلكيين


تحرير محل نزاع الفقهاء مع الفلكيين



د. عماد الدين عبد الوهاب خيتي
ابتدأ المختصون بعلم الفلك منذ أواخر أيام شهر رمضان بتوضيح ما يتعلق بإثبات هلال شهر شوال من حيث: موعد ولادة القمر، وظروف ترائي الهلال، وتوقعاتهم حول إمكانية رؤية الهلال بناءً على مُعطيات متعددة.
ثم قامت قناة (الجزيرة) بتغطية واسعة لرصد رؤية الهلال في مناطق مختلفة من العالم باستخدام وسائل تقنية متقدمة، ومن خلال مختصين وهواة في علم الفلك، وكان أن جزم الفلكيون بعدم القدرة على رؤية هلال شوال في السعودية وعدد من دول الخليج العربي بناءً على مُعطيات وأدلة علمية بحتة، ثم تقدم عدد من الشهود في السعودية برؤية الهلال، وصدَّقت المحكمة أقوالهم، فانطلق الخلاف بين أهل العلم وبين الفلكيين!
وامتلأت وسائل الإعلام المختلفة بالردود من أهل العلم على الفلكيين حول صحة رؤية هلال شهر شوال، بل وصل الأمر إلى خطب الجمعة، والعديد من منابر الدعوة.
والمتتبع للعديد من ردود أهل العلم يجد فيها استدعاءً للعديد من المسائل المتعلقة بإثبات الشهور القمرية ورؤية الهلال مع أنَّ أكثرها لم يكن مطروحًا للنقاش أو البحث في مقالات الفلكيين، إضافة إلى قسوة عددٍ من هذه الردودِ في ألفاظها وعباراتها التي لا محل لها في النقاش الدائر، ولا في تحديد محل النزاع.
ورغبة في التقريب بين وجهات النظر لا بد من تحرير محل النزاع، وبيان محل الاختلاف بين أهل العلم، وبين الفلكيين جاء هذا المقال.
ويمكن تقسيم الأمر إلى عدة مسائل:
المسألة الأولى: الاعتماد على الحساب الفلكي بديلاً عن الرؤية:
احتوت ردود أهل العلم على كلامٍ مُطوَّلٍ واستدلالٍ بالآيات القرآنية والأحاديث ونقولاتٍ من كلام أهل العلم على إبطال الحساب الفلكي، والتأكيد على الرؤية طريقًا وحيدًا لإثبات دخول الشهر وخروجه.
بينما لم يرد في كلام الفلكيين خلال الأيام السابقة الاعتماد على الحساب الفلكي بديلاً عن رؤية الهلال، بل كانت توقعاتهم وأبحاثهم وحساباتهم تصب في خانة (ضبط) مسألة الرؤية، وتوجيه المترائين إلى كيفية الترائي، ووقته، وشروطه، بل نصبوا المناظير والمراصد في أفضل الأماكن المُتوقَّعة لرؤية الهلال، ودعوا عامة الناس للحضور والترائي.
ويتفق الفلكيون في السعودية على الالتزام بفتاوى عدم الأخذ بالحساب الفلكي بديلاً عن الرؤية، وقد عملوا على توضيح موقفهم هذا سواءً كان قبل الترائي أو بعده:
أ_ فبيانات وتقارير فلكيي مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية كمقالات الأستاذ عبد العزيز الشمري المنشورة سنويًا تنصُّ على الالتزام بلائحة تحري الهلال الصادرة عن هيئة كبار العلماء.
ب_ وفي بيان فلكيي جدة قبل موعد الترائي بتاريخ 23/9/1432هــ الموافق 23/8/2011:''... أن هذه حقائق علمية فلكية، تهدف إلى إيضاح طبيعة حركتَيْ الشمس والقمر وفق الحسابات الفلكية القطعية، ولا تعتبر إعلاناً أو تحديداً لبداية شهر شوال. وأن القرار الفصل والنهائي سيكون للمحكمة العليا؛ نظرا لأنها هي الجهة المخولة نظاماً بإثبات الأشهر القمرية في المملكة''.
وفي بيانها بعد ليلة التحري بتاريخ 1/10/1432هـ_ الموافق 30/8/2011م: '' ... وبداية الشهر لدينا نحن المسلمين منوطة برؤية الهلال وذلك استناداً إلى قوله صلى الله عليه وسلم: ''صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته...''.
ب_ ويقف غالبية الفلكيين في العالم الإسلامي ذلك الموقف، فأكبر جمعيات الفلكيين المختصة بإثبات دخول الشهور القمرية وكان لها الحضور اللافت خلال السنوات السابقة من خلال البث الحي المباشر على قناة الجزيرة هي (المشروع الإسلامي لرصد الأهلة)، وهي مشروعٌ له العديد من الدراسات والبحوث، ولها فروع ومتعاونون من المختصين بعلم الفلك في شتى أنحاء العالم يُقدمون التقارير الشهرية عن رصد رؤية الأهلة، وهي توضِّح ضرورة الاعتماد على الرؤية لإثبات الشهور القمرية، مع الأخذ بضوابط فلكية معينة للتأكد من صحة الشهادة.
وبالتالي: فإن هذه المسألة ليست هي محل الخلاف بين الفلكيين وأهل العلم، فلا ينبغي توسيع النقاش فيها وتشعيبه وإطالة الردود والتشنيع في مسائل لا يقول بها الفلكيون، ولم تُطرح للبحث أصلاً.
المسألة الثانية: صحة بدء شهر شوال يوم الثلاثاء 30/9/2011:
من النقاط التي ردَّ بها أهل العلم على الفلكيين: أنَّ الفلكيين يشككون الناس في صحة صيامهم وإفطارهم، بل القول إنَّ بعضهم قد صام يوم الثلاثاء لأنَّه مُتممٌ لشوال.
وهذه النقطة كسابقتها: فإنَّ الفلكيين أعلنوا تقيُّدهم بقرارات المحكمة الشرعية لبدء الصوم وانتهائه، وكرروا ذلك في العديد من المقالات والمقابلات على مر السنوات السابقة، ولم يُعرف لهم رأيٌ مخالفٌ أو دعوةٌ أو اعتراضٌ على ذلك، وإنما كان النقد موجَّهًا لصحة شهادة الشهود من ناحية علمية بحتة، كما سيأتي.
وقد سبق كلام جمعية فلكيي جدة، وجاء في بيان فلكيي المشروع الإسلامي لرصد الأهلة: ''ونودّ أن نؤكّد أن نقدنا هو ليس لإعلان العيد ذاته، فنحن لا يزعجنا كفلكيين أن يكون العيد الثلاثاء أو الأربعاء، فهذا القرار يعود للمؤسسات المختصّة والمخوّلة...''.
أما ما قيل عن ارتياب البعض بصحة الفطر، أو انتشار شائعات بوجوب صوم يوم الثلاثاء، أو دفع كفارة لمن أفطره: فهذا ما لم يقل به أحد من الفلكيين قط.
كما أنَّ المتتبع لأحوالهم يجدهم ملتزمين ببداية الصوم ونهايته كما تقرره المحكمة ولم يصدر منهم مخالفة أو دعوة لمخالفة الرأي العام في ذلك.
ولو قاله لما صحَّ لأحدٍ أن يأخذ به، لأنهم ليسوا من أهل الفتوى شرعًا، ولا المخوَّلين بإصدار الفتاوى.
وقد نصَّ العديد من أهل العلم أنَّ الناس إذا اجتهدوا في تحري معرفة بداية شهر رمضان: فصاموا قبله بيوم أو بعده بيوم، أو في نهاية شهر رمضان وثبوت عيد الفطر: فأفطروا قبله بيوم أو بعده بيوم: فصيامهم وإفطارهم صحيح، الخطأ مرفوعٌ عنهم، لقول الرسول: (صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ) أخرجه البيهقي. ومعنى الحديث: أنَّ الناس لو أخطؤوا في إثبات دخول الشهر أو خروجه فليس عليهم إثمٌ في ذلك، ويُعدُّ صيامهم أو إفطارهم صحيحًا لا لبس فيه.
وكذلك فيما لو أخطؤوا في إثبات شهر ذي الحجة.
وبناء عليه: فإنَّ هذه المسألة ليست هي محل الخلاف، ولم يتطرق لها الفلكيون، ولم يثيروا حولها النزاع، فلا وجهَ للرد عليهم في ذلك، وتحميلهم مسؤولية بعض الإشاعات - التي لم يكن لها ذلك الانتشار الكبير في حقيقة الأمر - بل كان الواجب بيان الحكم الشرعي في هذه المسألة، لا سيما والأدلة عليها من القرآن والسنة وأقوال وأعمال السلف واضحةٌ صريحة، فيكون في ذلك بيانٌ للحكم الشرعي في المسألة، وزيادةُ علمٍ لعامة الناس بتحرير محل النزاع، وكيفية إدارة الخلافات العلمية والتعامل معها.
المسألة الثالثة: التأكد من صحة شهادة الشهود:
وهذه النقطة بالتحديد هي محل اعتراض الفلكيين ونزاعهم التي ينبغي مناقشتهم فيها، والتي سيكون التوسع في الحديث عنها.
مسألة قبول أو رد شهادة الشهود هي مسألة شرعيةٌ بحثها أهل العلم منذ القِدَم، ووضعوا لها الضوابط العديدة، ومن أهم ضوابطها: (أن تكون الشهادة منفكةً عَمَّا يُكذِّبها حِساً وعقلاً)، وهذا عامٌ في جميع القضايا المرفوع أمام القضاء، من حدود، وقصاص، وأمور مالية، وتوكيلات، وغيرها.
فمهما كانت القضية المرفوعة أمام القاضي، ومهما كان الشاهد فلا بدَّ أن تخلو شهادته مما يحكم عليها بالبطلان، ولا يتسع لضرب أمثلة على ذلك.
والشهادة على رؤية الهلال داخلةٌ في ذلك:
فالشاهد لا بدَّ أن تخلو شهادته مما يردُّها.
فلو شهد شاهدٌ على رؤية الهلال ليلة سبعٍ وعشرين، أو على رؤيته في جهةٍ غير الجهة التي يطلع منها، ونحو ذلك: فإنَّ شهادته لا تُقبل؛ لاستحالتها عقلاً.
قال السُّبكي في فتاواه: ''ولم يأت لنا نص من الشرع أنَّ كلَّ شاهدين تقبل شهادتهما سواء كان المشهود به صحيحًا أو باطلاً، ولا يترتب وجوب الصوم وأحكام الشهر على مجرد الخبر أو الشهادة'' أي أنَّ مُجرَّد قول الشخص: رأيتُ الهلال لا يقتضي قبول قوله، بل لا بد من تمحيص شهادته والنظر فيها.
الحكم بردِّ الشهادة لا يقتضي الحكم بكذب الشاهد:
فينبغي معرفة أنَّ رد شهادة الشهود لا يقتضي الحكم على الشاهد أنَّه كاذب، أو غير صادق، وهذه من المسائل المهمة التي ينبغي التنبه لها والاهتمام بها، وقد تؤثر في مسار قبول الشهادة أو ردها.
فكون الشاهد معروفًا بالصدق، أو التَّدين لا يقتضي قبول شهادته مباشرة؛ لأنَّ هناك عوامل أخرى تؤثر في شهادة الشهود، وعلى سبيل المثال:
1_ عدد الشهود: فلو شهد ثلاثة شهود على شخص في حادثة زنا لوجب رد شهادتهم مهما كان صدقهم وعدالتهم؛ لأنَّ من شروط الشهادة على الزنا أن يكونوا أربعة شهود.
2_ الشخص المشهود له: فقد ذهب العديد من أهل العلم إلى رد شهادة الشهود لأقاربهم في بعض المسائل بسبب القرابة.
3_ طبيعة المسألة المشهود فيها: فقد ذهب جمهور أهل العلم إلى عدم قبول شهادة النساء في الحدود والقصاص مهما كُنَّ صداقات وثقات.
4_ كما أنَّ هناك أسبابًا أخرى تتشابه مع ضوابط رواية الحديث: كرد الشهادة بسبب وهم الشاهد، أو نسيانه، أو اختلاط عقله، أو مخالفة شهادته لعددٍ أكبر من الشهود، أو لشهودٍ أوثق منه، وغير ذلك.
فإن رُدَّت شهادة الشهود: فليس ذلك لعدم صدقهم، أو عدم عدالتهم، بل لأسبابٍ عديدة مختلفة.
حال الهلال يوم الترائي الإثنين 29 رمضان:
ما سبق كان كلامًا نظريًا، ولتطبيق شروط الشهادة عمليًا يمكن النظر في عدة وقائع باختصار ومع الاقتصار على أهم ما فيها:
1_ كان مكان القمر في جميع مناطق المملكة تحت ارتفاع درجة واحدة، مما يعني أنه كان في غاية الانخفاض والاقتراب من الشمس، فضلاً عن أنه سيغرب مع الشمس في عددٍ من المناطق، وهذه ليست من الحساب الفلكي الذي يرفضه أهل العلم في شيء، بل هي حقائق كونية لا غبار عليها، ولا يختلف حولها أحد في العالم، ويدخل فيها تحديد مواعيد زوال الشمس وغروبها الذي ينبني عليه تحديد أوقات الصلاة، كما يدخل فيها تحديد أوقات الخسوف والكسوف ومرور الكواكب بالقرب من الأرض وغير ذلك، والتي أثبت الواقع صحتها ودقتها.
وعودة إلى إمكانية رؤية الهلال وهو على هذه الدرجة من الانخفاض والقرب من الشمس: فقد قال ابن تيمية - رحمه الله - في مجموع الفتاوى: ''إذا كان بُعدُه مثلاً عشرين درجة: فهذا يُرى ما لم يَحُل حائل، وإذا كان على درجةٍ واحدةٍ فهذا لا يُرى، وأمَّا حول العشرة: فالأمرُ فيه يختلف باختلاف أسباب الرؤية'' (25/186)، ويقصد بذلك درجات الفلك.
فقد جزم ابن تيمية رحمه الله بعدم رؤية الهلال في بعض الظروف، مع أنَّ أقواله هي عمدة القائلين برفض الحساب.
3_ وقد أيَّدت الإحصاءات المختلفة للفلكيين ما قاله ابن تيمية:
فقد جاء في تقرير للأستاذ عبد العزيز الشمري: (لجان التحري الرسمية في مختلف مناطق المملكة وعددها ست لجان وعلى مدى الثلاثين عاما الماضية وباستخدام أحدث الوسائل العلمية للرصد الفلكي من مناظير فلكية - تلسكوبات - ودرابيل ومن المشهورين بالرؤية مع هذه اللجان لم تثبت رؤية الهلال عندما يكون ارتفاع الهلال فوق الأفق بعد غروب الشمس في موقع التحري درجة فما دون.
وجميع المراصد الفلكية العالمية لم تثبت رؤية الهلال سواء بالعين المجردة أو من خلال المناظير الفلكية - التلسكوبات - في أي موقع على الكرة الأرضية رؤية الهلال عندما يكون أقل من درجة).
وفي ليلة تحري هذا العام 1432هـ لم تتمكن جميع المراصد في المملكة وبعض الدول الخليجية من رؤية الهلال مع تمكن تلك الأجهزة من معرفة وتحديد مكان القمر من خلال تقنيات وحسابات إلكترونية خاصة، وهي المراصد القوية المُكبِّرة الشديدة الوضوح.
ويُلحظ هنا: اتفاق كلمة الفلكيين النظرية، مع أعمالهم التطبيقية في أماكن متعددة من العالم على مدى سنوات طويلة، مع كلام شيخ الإسلام ابن تيمية منذ مئات السنين، ويدخل هذا في معرفة حال المشهود عليه.
3_ ومع كل ما سبق: شهد عددٌ من الشهود برؤية هلال شهر شوال في الظروف التالية:
أ_ كانت (الرؤية) في منطقة يغرب فيها القمر مع الشمس، ويكون عبارة خيط رفيع جدًا من النور بجانب وهج الشمس، بحيث لا يمكن رؤيته بالمناظير المقربة، فضلاً عن العين المُجرَّدة.
ب_ لم يتمكن أحد من رؤية الهلال في مناطق غرب المملكة والأكثر ارتفاعًا سواءً بالعين المُجردة أو التلسكوبات، ومن الأمور البدهية في علم الفلك أنَّ القمر يشرق من الغرب باتجاه الشرق؛ لذا يكون في الجهات الغربية أعلى في السماء، وأوضح، فإذا لم تمكن رؤيته في الغرب فلن يُرى في الشرق.
ج_ أسهم عددٌ كبيرٌ من علماء الفلك والمختصين وهم العارفون بحركات الكواكب وأماكنها، والمزودون بأفضل الوسائل التقنية في تحري الهلال في عدة دول، ومع ذلك لم يتمكنوا من رؤية الهلال بأي وسيلةٍ من الوسائل.
وهنا يكمن تساؤل الفلكيين:
إذا دلَّت الحقائق العلمية النظرية والتطبيقية على عدم الرؤية؛ لاستحالتها منطقيًا بسبب مكان القمر من الشمس وظروف غيابه ونحو ذلك، ولم تستطع الآلات الشديدة التقنية والمُدارة بيد المختصين في عدة دول من رؤية الهلال، ثم جاء من يُخبِر برؤيته للهلال بالعين المُجرَّدة:
فهل هذه الشهادة قد انفكَّت عما يُكذِّبها أو يردُّها؟ أم أنَّ جميع الدلائل والقرائن تُشير إلى عدم قبولها؟
ألم تُخالف هذه الشهادة المعقول من حيث إن الشهود تمكنوا بأعينهم المُجرَّدة من رؤية ما لم تتمكن من رؤيته المناظير المُقرِّبة؟
أم يُخالف هؤلاء الشهود المقطوع به من علم الفلك أنَّ الهلال إذا لم يُر في الغرب بسبب انخفاضه وعدم تميُّزه عن الشمس فإن رؤيته إلى الشرق يكون مستحيلاً؟ لأنَّ الهلال يُشرق من الغرب، يكون في الغرب أعلى في السماء من الشرق؟
ألم يُخالف هؤلاء الشهود بشهادتهم العدد الأكبر والأكثر انتشاراً والأعلم بمكان الهلال وظروفه من المختصين في الفلك؟
ألا يستحق كل ما سبق من التساؤلات ولو إثارة شيء من الشك في صحة شهادة هؤلاء الشهود، مما يدفع إلى تمحيصها، ووضع ضوابط لها، والتأكد منها على الأقل؟
واجب القضاة مع شهود الرؤية:
مما هو معلومٌ في علم القضاء: اشتراط أن يكون القاضي عارفًا عالمًا بالمسألة التي سيقضي بها، فإن كان يقضي في الأعراض، أو الدماء، أو الأموال فلا بد أن يكون عارفًا للمسألة التي يقضي فيها؛ حتى يتمكن من تصوُّر المسألة التي تُعرض عليه، ويحكم فيها عن كامل معرفة وإدراك، وحتى يتمكن من مناقشة الأدلة والبيِّنات والشهود، وهذا عامٌ في جميع المسائل.
ففي التحقيق في جريمة السرقة مثلاً: لا بد أن يكون القاضي عارفًا بالنصاب الذي يكون فيه القطع، والفرق بين السرقة والاختلاس والغش، وما يُعدُّ حرزًا وما لا يُعد، وهكذا.
وشهادة الشهود على رؤية الهلال تدخل في ذلك.
وبما أنَّ رؤية الهلال لها خصوصيةٌ من حيث دقة أمور علم الفلك، وتوقُّع عدم إلمام العديد من القضاة بأمور الفلك أو تمحيص شهادة الشهود: لم لا يستعين القضاة بعلماء الفلك في مناقشة الشهود والتأكد من صحة ما رآه الشهود، وليس هذا بدعًا في مجال الشهادة، فما زالت المحاكم تستدعي المختصين من مختلف التخصصات الطبية وغيرها للتأكد من حال الشهود، وصدق أقوالهم، فلماذا يُستثنى شهود رؤية الهلال من ذلك، ويُحكم بصحة شهادتهم بمجرد الحكم بصدقهم وديانتهم؟ وربما يُكتفى بسؤالهم عن بعض الأمور العامة بالنسبة للهلال والتي لا يمكن من خلالها الحكم بقبول شهادتهم أو ردِّها.
تفسير الفلكيين لما رآه الشهود:
احتوت البيانات التي أصدرها الفلكيون قبل يوم التحري في التنبيه إلى أنَّ مكان التحري في السماء سيشهد وجود عددٍ من الكواكب الأخرى الشبيهة بهلال القمر، وهو أمرٌ اعتيادي؛ إذ لا تخلو السماءُ من شروق و غروب الكواكب على مدى ساعات الأيام، خاصة مع اختلاف الكواكب ودوراتها الزمنية.
وعندما أعلن الشهودُ رؤيتهم هلال شهر شوال نأى الفلكيون بأنفسهم عن القدح في صدق الشهود، أو تكذيبهم، أو الرد على أشخاصهم، وإنما تحدثوا الظروف المُحيطة بالرؤية، ومن ذلك تفسير ما يمكن أن يكون الشهود قد رأوه ابتعاداً عن تكذيبهم أو القدح في عدالتهم.
وقد تناقلت الأخبار اختلاف الفلكيين في تحديد الكوكب الذي رأوه، وعَدُّوا ذلك من التناقض الذي يدل على عدم مصداقية الفلكيين.
والحقيقة أنَّ الفلكيين لم يتناقضوا لأنَّهم لم يجزموا بحقيقة ما رآه الشهود، وكيف يجزمون بأمر لا يعلمون عنه؟ ثم إنَّهم لم يقطعوا في بيانهم بل كانت عبارة عن ترجيحات وافتراضات تحتمل الصحة وعدمها.
وأخيراً: فإن محل الخلاف مع الفلكيين وباختصار وتلخيص لكل ما سبق:
هل تُقبل شهادة الشهود وإن احتفَّت بها القرائن التي تدل على رفضها وعدم قبولها؟ وهل من سبيل لوضع ضوابط للتأكد من صحة شهادة الشهود كما في المسائل الأخرى؟
وليس من محل الخلاف: الأخذ بالحساب الفلكي، ولا التشكيك في بداية صيام الناس أو انتهائها.
والله من وراء القصد.
-----------------------
نقلاً عن جريدة الاقتصادية السعودية

التصوّر الإسلامي للمسيح


التصوّر الإسلامي للمسيح
د.عبد المعطي الدالاتي
 "إن أتباع محمد أوفر أدباً في كلامهم عن المسيح"- برناردشو –
ولد المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام من غير أب ! وهو حدث عجيب ! ولكنه ليس أعجب من خلق آدم الذي خلق من غير أب ومن غير أم (( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ))(1) ، وفي هذه الآية نقرأ حُجة دامغة شبهت الغريب بما هو أغرب منه ، فلقد شاءت حكمة الله أن تشهد الإنسانية هذه الولادة العجيبة كي تتلفت من خلالها إلى قدرة الله ، إن عز عليها أن تتلفت إلى العجيبة الأولى – خلق آدم – التي لم يشهدها إنسان ، وثمة حكمة ثانية، وهي إعادة التوازن الروحي لبني إسرائيل الذين غرقوا في المادية ، فكانت ولادة المسيح الخارقة إعلاناً لعالم الروح .
ولما كان المسيح عليه السلام جنيناً صغيراً في بطن أمه الطاهرة ، كان الله يرعاه ، وكان يغذوه من دمها الطاهر الزكي ، وطبيعي أن السماوات والأرض كانت مخلوقة بقدرة الله وحده لما كان المسيح يتخلّق في رحم العذراء البتول 
(( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ))(2).
وقد تفرّد القرآن الكريم بذكر قصة ولادة المسيح بتفصيل مبين ، وبأسلوب معجز جميل وجليل ، يقول الله تعالى في سورة مريم : 
(( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا ، فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ، قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا ، قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا ، قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ، قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا ، فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا، فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا، فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلاّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ، وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ، فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا ، فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ، يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا، فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ، قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ، وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ، وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ، وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ، ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ، مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ))(3).
وإن دارس القرآن يدرك أن القرآن لم يذكر قصة مولد النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه كان مولداً طبيعياً ، وهذا من أظهر الأدلة على أن القرآن ليس من عنده ، وإلا لاهتم بمولده أكثر من اهتمامه بمولد عيسى بمقتضى الطبيعة البشرية .
والعجيبة الثانية التي ذكرتها الآيات الكريمة أن المسيح عليه السلام قد كلم الناس في المهد ليُبرِّئ ساحة أمه الطاهرة التي قال القرآن فيها: 
(( وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ))(4).
وقد أكد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم رفعة السيدة مريم فقال: "خير نسائها مريم بنت عمران ، وخير نسائها خديجة"(5). والعجيب حقاً أن يتكرر الذكر العطر للسيدة مريم كثيراً في القرآن من دون أن يذكر اسم والدة محمد صلى الله عليه وسلم ! والسؤال الذي يطرح نفسه : لو كان القرآن من عند محمد فهل كان سيَفصلَه عن ذاته فيغفل ذكر أمه ثم يثني على أم رسول آخر ؟! ألا تدل هذه الظاهرة على أن القرآن الكريم قد صدر عن أفق أعلى من ذات النبي محمد ؟.
هذه الصورة الرائعة في القرآن للسيدة مريم على خلاف الصورة اليهودية التي رسمها يهود ، إذ طعنوا في عفتها وافتروا عليها بهتاناً عظيماً ، ومن المفارقات العجيبة التي ألمح إليها الدكتور شوقي أبو خليل (6) أن يعمد القائمون على طباعة الأناجيل المتداولة إلى طباعة العهد القديم كتاب اليهود المقدس ونشره مرفقاً مع العهد الجديد ! وكان الأولى بهم أن يطبعوا وينشروا القرآن الكريم .
ونتساءل هل يمكن أن يكون الصمت خطيئة !! نعم إذا كان هذا الصمت يحجب الإيمان والحقيقة ، ولكن الصمت مهما طال فستمزقه كلمة حق حين تُقال.
شب المسيح في كنف أمه التي كانت تحوطه وترعاه ، فبادلها حباً بحب وبرٍّ ووفاء وقد سجل القرآن هذا 
(( وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا ))(7).
على حين نقرأ في إنجيل يوحـنــا (2/3) : " ولما فرغت الخمر قالـت أم يسوع لــه : ليس لهم خمر ، قال لها يسوع : مالي ولك يا امرأة " !
المسيح إنسان ورسول :أكدت الأناجيل المتداولة بشرية المسيح عليه السلام وأنه "ابن الإنسان" في عشرات المواضع . ففي إنجيل متى (8/20) " لطيور السماء أوكار وأما ابن الإنسان فليس له أن يسند رأسه" ، وفي إنجيل يوحنا (8/40) " أنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله" .
ولقد كان المسيح عليه السلام كغيره ، يجوع فيأكل الطعام 
(( مَّا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ ))(8).
وفي إنجيل متى (21/18) "وفي الصبح إذ كان راجعاً إلى المدينة جاع" .
هذا الإنسان العظيم كان ذا شخصية جذابة وذا خلق كريم ، اصطفاه الله ليكون رسولاً إلى بني إسرائيل يحكمهم بشريعة التوراة وهداية الإنجيل فدعاهم إلى الإيمان بالله وحده ، وإلى إخلاص العبادة له ، وذلك بعد أن انحرف بنو إسرائيل فمنهم من عبد العجل ، ومنهم من قال : عزير ابن الله ، ومنهم من قتل الأنبياء أو افترى عليهم عظيم القول ، ورسالة المسيح عليه السلام كانت خاصة ببني إسرائيل يقول الله تعالى : 
(( وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ، وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ))(9) ، وفي إنجيل متى ورد : " لم أُرسَل إلا إلى خراف بني إســرائيل الضالــة"(10) ،
وقد ذُكرت مهمة المســيح الرسـاليـة في القــرآن الكريم 
(( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْــهُ ))(11)، كما ذكرت هذه المهمة في الأناجيل ، ففي إنجيل يوحنا ( 17/3 ) "أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته" ، وفي إنجيل لوقا (24/19) "يسوع الناصري الذي كان إنساناً نبياً" .
وكسائر الأنبياء الكرام فقد أيد الله رسوله المسيح بمعجزات وآيات ، من ذلك أنه كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله .
دعوة المسيح هي توحيد الله :طاف المسيح عليه السلام في البلاد سائحاً يدعو العباد إلى التوحيد الخالص وإلى عبادة الله وحده، وراح يدعو بني إسرائيل بآيات الإنجيل ، وبمواعظ تسحر الألباب ، لقد كان عليه السلام كالحكمة الطائفة ، وكأنفاس الحياة ، يزرع الخير ويغرس شجرة التوحيد والعبودية لله الواحد الأحد (( وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ)(12) ..(( لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ))(13).
وفي إنجيل لوقا ( 4/8 ) "إنه مكتوبٌ للرب إلهك تسجد ، وإياه وحده تعبد" .
وفي مُرقس (2/7) : "من يَقدر أن يغفر خطايا إلا الله وحده ؟!" ، وفيه (12/9) : "الربُّ إلهُنا ربٌ واحد" .
وقد سبق أن قرأنا هذه الكلمة : "أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ، ويسوع المسيح الذي أرسلته" والتي يمكن أن نقرأها أيضاً هكذا : "لا إله إلا الله ، والمسيح رسول الله" ..
أما القديس (آريوس ) فيقول : "بما أن الرب واحد وغير مولود كالمسيح فهو الإله الوحيد" ، ويقول المستشرق الشهير غوستاف لوبون : "لا شيء يدل على أن الناس عدّوا يسوع إلهاً في القرن الأول من النصرانية"(14) ، أما شاعر الألمان الأكبر يوهان غوته فيقول : "يسوع كان طاهر الشعور ولم يؤمن إلا بالله الواحد الأحد ، ومن جعل منه إلهاً فقد أساء إليه ، وهكذا فإن الحق هو ما نادى به محمد"(15) .
ويتساءل غوته متعجباً : "تريدين أن تُقدمي إلي هذه الصورة البائسة للمصلوب على الخشب على أنه الله ؟!(16).. إذا كان للرب كفواً أحدٌ أيكون بعدها رباً؟"(17)، وفي المؤتمر الذي عقده أساقفة الأنجليكان في إنجلترا عام 1984 وحضره (31) أسقفاً قرر تسعة عشر منهم أنه يكفي اعتبار المسيح رسولاً عظيماً فحسب(18).
بشارة المسيح ببعثة محمد عليهما السلام :أنزل الله تعالى ( الإنجيل ) على المسيح (( وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ ))(19) ، وكلمة (الإنجيل) تعني باليونانية ( الخبر الطيب ) أو ( البشارة الطيبة ) والذي يبدو أنه قد سمي بهذا الاسم لأنه كان آخر كتاب سماوي بشَّر باقتراب موعد نزول الكتاب الإلهي الخالد ( القرآن الكريم ) ، ولأنه بشَّر أيضاً بقرب بعثة الرسول الخاتم محمد ، بدليل قول المسيح عليه السلام ((يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ))(20).
أما القرآن فقد اشتُقّ اسمه من ( القراءة ) بمعنى الاستقراء والتحليل والفهم ، وتأكد هذا المعنى بأن أول كلمة نزلت من القرآن هي ( اقرأ ) وأول أداة ذكرت فيه هي ( القلم ) .
وقد تواترت البشارات في الأناجيل المتداولة ، ففي إنجيل برنابا(21)(36/6) : "قد جاء الأنبياء كلهم إلا رسول الله الذي سيأتي بعدي ، لأن الله يريد ذلك حتى أهيئ طريقه" ، وفيه (44/19) : "إن رسول الله مزدان بروح الفهم والمشورة ، روح الحكمة والقوة ، روح الخوف والمحبة ، روح التبصّر والاعتدال ، ما أسعد الزمن الذي سيأتي فيه إلى العالم" .
وبشارة تواترت تقول "اقترب ملكوت السماوات"(22) ، و "ليأت ملكوتك"(23)، والذين بشّروا باقتراب ملكوت السماوات هم يحيى وعيسى عليهما السلام ، وتابعهما الحواريون والتلاميذ ، وفي إنجيل متى نقرأ قول المسيح :
"الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية ، لذلك أقول لكم إن ملكوت الله يُنزع منكم ويُعطى لأمة تعمل أثماره ، ومن سقط على هذا الحجر يترضّض ومن سقط هو عليه يسحقه"(24).
لقد كانت بعثة المسيح عليه السلام إذن هي المقدمة الأخيرة لمجيء الرسول الخاتم الذي صار رأس الزاوية.. وقد صور الرسول عليه الصلاة والسلام الرسالات السماوية في جملتها أحسن تصوير حين قال :
" إنما مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً ، فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة ، فجعل الناس يطوفون به ، ويتعجبون ويقولون هلاّ وُضعت هذه اللبنة ؟ فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين"(25).
يقول الدكتور محمد عبد الله الدراز : "كانت الشرائع السماوية خطوات متصاعدة ولبنات متراكمة في بنيان الدين والأخلاق وسياسة المجتمع . وكانت مهمة اللبنة الأخيرة أنها أكملت البنيان ، وملأت ما بقي فيه من فراغ ، وأنها كانت بمثابة حجر الزاوية الذي يمسك أركان البناء إنها إذاً سياسة حكيمة رسمتها يد العناية الإلهية لتربية البشرية تربية تدريجية لا طفرة فيها ولا ثغرة ، ولا تناقض ولا تعارض ، بل تضافُرٌ وتعانقٌ وثباتٌ واستقرارٌ ، ثم نموٌ واكتمالٌ وازدهار"(26).
لقد اكتمل برسول الله بناء النبوة الشامل ، وبهذا الاكتمال انتهى بناء الصرح العظيم فلا محل لزيادة فيه ، يقول الله تعالى : 
((وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ))(27).
ويقول : 
(( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَليْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ))(28).
نهايــة المسـيح عليـه السـلام :لم تكن نهاية السيد المسيح على الأرض أقل عجباً من ولادته ! فبعد أن لاقت دعوته الرفض من يهود ، وبعد أن بهتوا أمه البتول ، فاض حقدهم عليه ، فعزموا على قتله وصلبه ، فنجّاه الله منهم ورفعه إليه ، ((وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيماً، وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ))، وفي إنجيل برنابا نقرأ : "دخلت الجنود وألقوا أيديهم على يهوذا لأنه كان شبيهاً بيسوع من كل وجه .. فأخذ الجنود يهوذا وأوثقوه .. وقادوه إلى جبل الجمجمة ، وهناك صلبوه ، ولم يفعل يهوذا شيئاً سوى الصراخ : يا الله لماذا تركتني"(29)، وفي هذا العصر برّأت الكنيسة اليهود من دم المسيح ، لاقتناعها ضمناً بأن المصلوب لم يكن المسيح ، وإلا فهل يعقل أن تُفرِّط الكنيسة بدم المسيح هذا التفريط مهما كانت الأسباب ؟! . ونتساءل مع الدكتور سامي عصاصة : "هل اســتغرق اكتـشـــاف هــذا الخطأ ألفي عـام قبــل أن يجري تصحيحه؟!"(30).
ومثلما تفرّد القرآن الكريم بالحديث عن المسيح قبل مولده ، تفرد أيضاً بالحديث عنه يوم القيامة يوم يقوم الأشهاد . ففي موقف مستقبلي مهيب ، يرسم القرآن الكريم مشهداً جليلاً يصور فيه موقف المسيح مع إخوانه الأنبياء بين يدي الله تعالى يوم الحساب : 
(( وَإِذْ قَالَ اللّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ، مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ، إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ، قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ )) (31).
إنه استجوابٌ هائل في موقف مرهوب ، وجوابٌ من المسيح كله أدب مع الله ، ((إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ )) فهو لم يقل في جوابه "لا لم أقله" ! وهذا من أبلغ الأدب مع الله تعالى ، وحقاً إن التاريخ يغدو قصة فارغة إذا خلا من أدب الأنبياء ، ومن سير الأنبياء ، ومن تعاليم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .
تاريـخ المســلم :وثمة كلمة مسلمة نقولها في المسيح عليه السلام ، إن المسلم لا يكون مسلماً أبداً إن لم يؤمن بأنبياء الله كلهم كإيمانه بمحمد عليه السلام ، فإذا كفر بواحد منهم ، أو تناوله بكلمة سوء واحدة ، فقد انسلخ عن الإسلام ، فمن لا يؤمن برسول من الرسل الكرام هو كمن لا يؤمن به كلهم ، وإن تاريخ المسلم هو تاريخ الرسالات السماوية كلها ، فهو يؤمن بإبراهيم وموسى وعيسى ، وبالتوراة والإنجيل كإيمانه بمحمد وبالقرآن سواء بسواء ، قال الله تعالى : (( وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَينَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ )) (32).
والمسلم يسير أبداً في ركب الأنبياء عليهم السلام ، فهو يترسَّم خُطاهم ، ويعتبر تاريخَهم تاريخَه ، ونحن المسلمين ، مذ كنا صغاراً تفتحت قلوبنا على آدم في جنته ، وعلى نوح في سفينته ، وعلى إبراهيم يحطم الأصنام بساعديه ، وعلى موسى إذ يشق البحر بعصاه ، وعلى عيسى بن مريم إذ أتت به قومها تحمله فكلمهم في المهد ، وعلى محمد في غاره يردّد قول الأمين جبريل : 
(( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ )) .. نحن المسلمين-يقول القرضاوي : "إذا جاءنا اليهود تحت راية موسى ، جئناهم تحت رايــة موســـى وعيســى ومحمد عليهم السلام"، ونحن المسـلمين لا نعيش – بحمد الله – أية عقدة تجاه أية رسالة سماوية أو أي رسول ، ونحن كما قال نبينا محمد ، "أولى الناس بعيسى بن مريم" إذ يسكن حبه وحب أمه الطاهرة في أعماقنا، وهذا الحب لا يوازيه إلا محبتنا لسائر الأنبياء الكرام .
هذه هي نظرتنا إلى الأنبياء فهل سينظر أتباعهم إلى نبينا النظرة ذاتها ؟ يقول م. كويت "قد شب أغلب الغربيين على كراهية الإسلام ، بينما شب المسلمون على حب المسيح والإنجيل المنزل عليه"(33) . ويقول البريطاني أرسكين تشايلدرز : "إن العلاقة بين المسلمين وغيرهم لم تكن متوازنة من البداية ! فقد اعترف الإسلام بالديانات السماوية واعتبر الإيمان بأنبيائها جزءاً من سلامة اعتقاد المسلم ، في حين أن أهل هذه الأديان لم يعترفوا بالإسلام ولم يهادنوه يوماً".
ويقول رينيه ديكارت في (مقالة الطريقة ): "نحن والمسلمون في هذه الحياة .. ولكنهم يعملون بالرسالتين العيسوية والمحمدية ، ونحن لا نعمل بالثانية، ولو أنصفنا لكنا معهم جنباً إلى جنب لأن رسالتهم فيها ما يتلاءم مع كل زمان" ، ويقول المسلم د. محمد غريب : "لو عرف المسيحيون الإسلام وأسلموا لأكرموا المسيح عليه السلام أكثر" .
نأمل أن يكون البحث عن الحقيقة هو رائد الناس كل الناس ، ونأمل أن يؤدي الصدق مع الذات إلى مراجعة واعية للمواقف والاعتقادات ، ونرجو أن يؤدي التفكر والحوار الموضوعي دورهما في طريق البحث عن الحقيقة .
***" عن كتاب " ربحت محمداً ولم أخسر المسيح "
--------------------------------------
الهوامش :
(1) قرآن كريم ، سورة آل عمران ( 3/59 ) .          (2) قرآن كريم ( 36/82 ) .
(3) قرآن كريم ، سورة مريم (19/15-34) .            (4) قرآن كريم ، سورة الأنبياء ( 91 ) .
(5) رواه البخاري ومسلم .                            (6) في كتابه (التسامح في الإسلام) ص(33) .
(7) قرآن كريم ، سورة مريم (32) .                      (8) قرآن كريم ، سورة المائدة ( 75 ) .
(9) قرآن كريم  سورة آل عمران ( 48 – 49 ) .         (10) متى (15/24 ) .
(11) قرآن كريم ، سورة النساء ( 171 ) .                (12) قرآن كريم (5/72) .
(13) قرآن كريم ، سورة المائدة ( 172 ) .              (14)(حياة الحقائق ) غوستاف لوبون ص (63) .
(15) قصيدة (هذه الأسماط من اللآلئ ) غوته ، نقلاً عن ( غوته والعالم العربي ) كاتارينا مومزن ص (255) .                        (16) نفسه ص (257) .
(17) عن ( الشرق والمغرب في أدب غوته ) عبد الرحمن صدقي ص (29) .
(18) عن ( البحث عن الحقيقة الكبرى ) المهندس عصام قصب ص (345) .
(19) سورة المائدة (5/46) .                            (20) القرآن الكريم ، سورة الصف ( 6 ) .
(21) برنابا : هو أحد حواريي المسيح ، وهو خال مرقس ، وقد اكتشف إنجيله أول مرة في مكتبة القديس بطرس في الفاتيكان ، وذلك قبل ظهور الإسلام بقرنين ، وهو أوسع إنجيل ويفي بمعلومات كثيرة عن سيرة المسيح عليه السلام .
(22) متى ( 3/2 ) ومتى ( 4/17 ) ولوقا ( 10/11 ) .            (23) متى ( 6/10 ) .
(24) متى ( 21/42 ) وانظر دانيال ( 2/44 ) .                  (25) رواه البخاري .
(26) عن ( التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام ) محمد الغزالي ص (77) .
(27) قرآن كريم ، سورة المائدة (48) .          (28) قرآن كريم ، سورة المائدة ( 3 ) .
(29) إنجيل برنابا (216/9-79 ) .
(30) (هل اليهودية التلموديــة ديـــن ؟!) للدكتور سامي عصاصـة ص (211) ، والتبرئـة صدرت في 24/11/1964غ عن المجمع المسكوني الفاتيكاني .
(31) سورة المائدة (108-119) .                  (32) قرآن كريم ، سورة البقرة (285) .
(33) عن (مقدمات العلوم والمناهج ) العلامة أنور الجندي (8/166) .

----
(صيد الفوائد)

من سمات المنهج السلفي (للشيخ محمد عبد الحكيم القاضي)

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آل بيته الطيبين، وعلى صحابته الغر الميامين، وعلى من سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين.
وبعد،
فهذه سلسلة محاضرات تحت عنوان/ سمات المنهج السلفي..
 ألقاها فضيلة الشيخ/ محمد عبد الحكيم القاضي -حفظه الله.

قد سجلها أحد الأخوة -جزاه الله خيرًا-، وهي عبارة عن  ثلاثة محاضرات مقطعة، كل محاضرة على ثلاثة أشرطة، قمت بضبطها ودمجها بحيث تكون كل محاضرة في شريط واحد، ورفعتها بروابط مباشرة على موقع الأرشيف.

الشريط الأول بعنوان: من سمات المنهج السلفي الوضوح
حمل من هنا

الشريط الثاني بعنوان: من سمات المنهج السلفي الاتباع 1
حمل من هنا

الشريط الثالث بعنوان: من سمات المنهج السلفي الاتباع 2
حمل من هنا

أسأل الله تعالى أن يعفو عني وعن والدي وعمن أحببت والمسلمين أجمعين.
والله من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
والحمد لله رب العالمين