من روائع البيان القرآني

كتبه فضيلة الشيخ/ محمد عبد الحكيم القاضي
___________________________

حينما تنظر إلى أسباب النزول تحل لك أمور كثيرة من المقاصد القرآنية .. وهذا شيء متفق عليه بين أهل العلم .. صحيح أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وهذا شيء متفق عليه بين الأصوليين والفقهاء .. لكن هناك أمورا لا يعرف خبيئة الحكم الموجود بها إلا بمعرفة سبب نزولها ...

ومن امثلة ذلك مثلا قوله تعالى :
{ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا }

فإن مفهوم الشرط هاهنا مستحيل لأنه يقتضي أن من لم ترد تحصنا يجوز لسيدها أن يتركها للبغاء ، وهذا محال في دين الله تعالى ومخالف للإجماع . فمفهوم النص هنا لا يتجه ، ومن هنا يلجأ إلى سبب نزول الآية ليحل الإشكال ، وقد روى مسلم وغيره عن جابر قال: كان عبد الله بن أبي يقول لجارية له: اذهبي فابغينا شيئاً، فأنزل الله عز وجل (وَلا تُكرِهوا فَتياتِكُم عَلى البِغاءِ) إلى قوله (غَفورٌ رَّحيمٌ) . (أسباب نزول القرآن للواحدي كتاب الكتروني ص117) فدل هذا على أنه نهي عن أن يطلب الرجل من أمته شيئا من هذا . فدل ذلك على أن المنهي عنه هو أحد وجهي الشرط وليس الوجهين ، أي المنهي عنه إكراههن وقد أردن التحصن لا عدم الأكراه إن لم يردنه .. وهذا من دقائق الفهم لأسلوب الشرط ومفهومه لا يتأتى إلا بمعرفة ملابسات النهي لا مجرد النص .. ولذلك قال السيوطي : " والإطلاع على ذلك من فوائد معرفة أسباب النزول" . (الإتقان في علوم القرآن 1/266)

هذا أمر .. ولكن الأمر المهم الذي أريد الإشارة إليه هنا هو روعة التعامل القرآني مع السائلين عن بعض قضايا الدين الحنيف وهو أمر يحتاج منا إلى اهتمام في التأمل ..

من المعروف أن الأصل في إجابة السائل المستفتي ان يجاب على نص سؤاله وهذا هو السائد المعروف في القرآن والحديث وتصرف العلماء ، لكن من غرائب النسق القرآني أن تأتي بعض الإجابات على سؤال السائل بطريقة مغايرة لهذا المألوف ، وهذا ما سنشير إليه هنا ونبين ما فيه من عمق تشريعي وتهذيبي ، ونكتفي بمثالين هنا :

الأول :
قوله تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} سورة البقرة/189
فعن أي شيء سأل هؤلاء في ميدان الأهلة ؟ باستفتاء أسباب النزول نجد أنهم سألوا عن كيفية خلق الأهلة واختلاف أحجامها على مدار الشهر ..

قال الكلبي: نزلت في معاذ بن جبل وثعلبة بن عنمة، وهما رجلان من الأنصار قالا: يا رسول الله ما بال الهلال يبدو فيطلع دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يكون كما كان، لا يكون على حال واحدة؟ فنزلت هذه الآية. (أسباب نزول القرآن للواحدي ص 15) فالإجابة هنا ليست على عين السؤال ، إذ لم تتعرض لمسألة اختلاف الأحجام أو نحوها وإنما ذكرت فائدة الأهلة ، )، فعدل عن الجواب عن عين سؤالهم إلى الجواب عن منافع الأهلة في الدين والحياة، فهذا ما يقدرون على فهمه في ذلك الوقت، وهو كذلك أجدى عليهم، وأنفع لهم.

وأيا كان سند رواية الكلبي عن معاذ هذه فيبقى أن سبب نزول الآية لم يكن سؤالا عن فائدة الأهلة ومقاصدها ولذلك يقول العلامة ابن عاشور في التحرير : ".... فالجواب بقوله ( قل هي مواقيت ) غير مطابق للسؤال فيكون إخراجا للكلام على خلاف مقتضى الظاهر بصرف السائل إلى غير ما يتطلب تنبيها على أن ما صرف إليه هو المهم له لأنهم في مبدأ تشريع جديد والمسؤول هو الرسول عليه الصلاة و السلام وكان المهم أن يسألوه عما ينفعهم في صلاح دنياهم وأخراهم وهو معرفة كون الأهلة ترتبت عليها آجال المعاملات والعبادات كالحج والصيام والعدة ولذلك صرفهم عن بيان مسؤولهم إلى بيان فائدة أخرى لا سيما والرسول لم يجيء مبينا لعلل اختلاف أحوال الأجرام السماوية والسائلون ليس لهم من أصول معرفة الهيئة ما يهيئهم إلى فهم ما أرادوا علمه بمجرد البيان اللفظي بل ذلك يستدعي تعليمهم مقدمات لذلك العلم على أنه لو تعرض صاحب الشريعة لبيانه لبين أشياء من حقائق العلم لم تكن معروفة عندهم ولا تقبلها عقولهم يومئذ ولكان ذلك ذريعة إلى طعن المشركين والمنافقين بتكذيبه فإنهم قد أسرعوا إلى التكذيب فيما لم يطلعوا على ظواهره" (التحرير والتنوير كتاب الكتروني 1/ 535)

فانظر إلى التعامل القرآني مع السائل . وهذا يدل على أن المفتي يجوز له أن يصرف السائل عن أصل سؤاله إن لم يكن له فيه فائدة ويجيبه على وجه آخر من وجوهه يعلم ان فائدته العلمية والدينية تتحقق به . ومن ذلك ما رواه الشيخان عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَتَى السَّاعَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (مَا أَعْدَدْتَ لَهَا) قَالَ: مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرِ صَلَاةٍ وَلَا صَوْمٍ وَلَا صَدَقَةٍ وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ, قَالَ: (أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ) .
فصرف النبي صلى الله عليه وسلم السائل عن موعد الساعة لأنه مما لا يستفيده السائل ولا يعرفه المسئول إلى شيء يفيده وهو ماذا أعد لها .

وأما المثال الثاني :
فهو قوله تعالى : {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} سورة النساء/32 .

فقد روي في سبب نزولها عند الترمذي في سننه 5/ 237.. عن مجاهد عن أم سلمة أنها قالت : يغزو الرجال ولا يغزو النساء وإنما لنا نصف الميراث . فأنزل الله {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ}فهنا كان تساؤل أم سلمة كأنها تطلب تفسير سبب هذا الفرق بين الذكر والأنثى في الغزو والميراث ، ويشهد لها رواية البيهقي السنن الكبرى 9/21): "أيغزو الرجال ولا نغزو فنستشهد وانما لنا نصف الميراث ؟" .. لكن القرآن الكريم عدل عن هذا وأجاب بما هو أهم للمرأة وهي أن تحمد الله على فضله وتسأله مزيد فضله ولا تتمن ما فضل الله الرجال عليها فيه فهذا خير لها ..

وسبحان الله جاء الزمان الذي عرفنا فيه مدى عظم هذه الإجابة ؛ فها هي النسوة المتمردات على شريعة الرحمن تجعل من حسدها للرجال وتمنيها ما فضله الله به عليها موقدا لحرب على الله ورسوله .. فلماذا لا تشاركه في العمل ؟ ولماذا لا ترشح نفسها للمجالس النيابية لتتولى النيابات العامة والقضاء ؟ولماذا لا يكون لها مثل نصيبه في الميراث ؟؟

وأختم هذه الحلقة بقول صاحب الظلال مبينا ارتباط التشريع بالتربية النفسية العالية (2/104) :
"إنها حلقة في سلسلة التربية ، وحلقة في سلسلة التشريع . . والتربية والتشريع في المنهج الإسلامي متلازمان؛ أو متداخلان؛ أو متكاملان . . فالتشريع منظور فيه إلى التربية؛ كما هو منظور فيه إلى تنظيم شؤون الحياة الواقعية؛ والتوجيهات المصاحبة للتشريع منظور فيها إلى تربية الضمائر؛ كما أنه منظور فيها إلى حسن تنفيذ التشريع ، وانبعاث التنفيذ عن شعور بجدية هذا التشريع؛ وتحقق المصلحة فيه . والتشريع والتوجيه المصاحب منظور فيهما - معاً - إلى ربط القلب بالله ، وإشعاره بمصدر هذا المنهج المتكامل من التشريع والتوجيه . . وهذه هي خاصية المنهج الرباني للحياة البشرية . . هذا التكامل الذي يصلح الحياة الواقعية ، ويصلح الضمير البشري في ذات الأوان . ."

0 التعليقات:

إرسال تعليق

تعليقك يعني لي الكثير ، فلا تبخل به !