تحرير محل نزاع الفقهاء مع الفلكيين


تحرير محل نزاع الفقهاء مع الفلكيين



د. عماد الدين عبد الوهاب خيتي
ابتدأ المختصون بعلم الفلك منذ أواخر أيام شهر رمضان بتوضيح ما يتعلق بإثبات هلال شهر شوال من حيث: موعد ولادة القمر، وظروف ترائي الهلال، وتوقعاتهم حول إمكانية رؤية الهلال بناءً على مُعطيات متعددة.
ثم قامت قناة (الجزيرة) بتغطية واسعة لرصد رؤية الهلال في مناطق مختلفة من العالم باستخدام وسائل تقنية متقدمة، ومن خلال مختصين وهواة في علم الفلك، وكان أن جزم الفلكيون بعدم القدرة على رؤية هلال شوال في السعودية وعدد من دول الخليج العربي بناءً على مُعطيات وأدلة علمية بحتة، ثم تقدم عدد من الشهود في السعودية برؤية الهلال، وصدَّقت المحكمة أقوالهم، فانطلق الخلاف بين أهل العلم وبين الفلكيين!
وامتلأت وسائل الإعلام المختلفة بالردود من أهل العلم على الفلكيين حول صحة رؤية هلال شهر شوال، بل وصل الأمر إلى خطب الجمعة، والعديد من منابر الدعوة.
والمتتبع للعديد من ردود أهل العلم يجد فيها استدعاءً للعديد من المسائل المتعلقة بإثبات الشهور القمرية ورؤية الهلال مع أنَّ أكثرها لم يكن مطروحًا للنقاش أو البحث في مقالات الفلكيين، إضافة إلى قسوة عددٍ من هذه الردودِ في ألفاظها وعباراتها التي لا محل لها في النقاش الدائر، ولا في تحديد محل النزاع.
ورغبة في التقريب بين وجهات النظر لا بد من تحرير محل النزاع، وبيان محل الاختلاف بين أهل العلم، وبين الفلكيين جاء هذا المقال.
ويمكن تقسيم الأمر إلى عدة مسائل:
المسألة الأولى: الاعتماد على الحساب الفلكي بديلاً عن الرؤية:
احتوت ردود أهل العلم على كلامٍ مُطوَّلٍ واستدلالٍ بالآيات القرآنية والأحاديث ونقولاتٍ من كلام أهل العلم على إبطال الحساب الفلكي، والتأكيد على الرؤية طريقًا وحيدًا لإثبات دخول الشهر وخروجه.
بينما لم يرد في كلام الفلكيين خلال الأيام السابقة الاعتماد على الحساب الفلكي بديلاً عن رؤية الهلال، بل كانت توقعاتهم وأبحاثهم وحساباتهم تصب في خانة (ضبط) مسألة الرؤية، وتوجيه المترائين إلى كيفية الترائي، ووقته، وشروطه، بل نصبوا المناظير والمراصد في أفضل الأماكن المُتوقَّعة لرؤية الهلال، ودعوا عامة الناس للحضور والترائي.
ويتفق الفلكيون في السعودية على الالتزام بفتاوى عدم الأخذ بالحساب الفلكي بديلاً عن الرؤية، وقد عملوا على توضيح موقفهم هذا سواءً كان قبل الترائي أو بعده:
أ_ فبيانات وتقارير فلكيي مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية كمقالات الأستاذ عبد العزيز الشمري المنشورة سنويًا تنصُّ على الالتزام بلائحة تحري الهلال الصادرة عن هيئة كبار العلماء.
ب_ وفي بيان فلكيي جدة قبل موعد الترائي بتاريخ 23/9/1432هــ الموافق 23/8/2011:''... أن هذه حقائق علمية فلكية، تهدف إلى إيضاح طبيعة حركتَيْ الشمس والقمر وفق الحسابات الفلكية القطعية، ولا تعتبر إعلاناً أو تحديداً لبداية شهر شوال. وأن القرار الفصل والنهائي سيكون للمحكمة العليا؛ نظرا لأنها هي الجهة المخولة نظاماً بإثبات الأشهر القمرية في المملكة''.
وفي بيانها بعد ليلة التحري بتاريخ 1/10/1432هـ_ الموافق 30/8/2011م: '' ... وبداية الشهر لدينا نحن المسلمين منوطة برؤية الهلال وذلك استناداً إلى قوله صلى الله عليه وسلم: ''صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته...''.
ب_ ويقف غالبية الفلكيين في العالم الإسلامي ذلك الموقف، فأكبر جمعيات الفلكيين المختصة بإثبات دخول الشهور القمرية وكان لها الحضور اللافت خلال السنوات السابقة من خلال البث الحي المباشر على قناة الجزيرة هي (المشروع الإسلامي لرصد الأهلة)، وهي مشروعٌ له العديد من الدراسات والبحوث، ولها فروع ومتعاونون من المختصين بعلم الفلك في شتى أنحاء العالم يُقدمون التقارير الشهرية عن رصد رؤية الأهلة، وهي توضِّح ضرورة الاعتماد على الرؤية لإثبات الشهور القمرية، مع الأخذ بضوابط فلكية معينة للتأكد من صحة الشهادة.
وبالتالي: فإن هذه المسألة ليست هي محل الخلاف بين الفلكيين وأهل العلم، فلا ينبغي توسيع النقاش فيها وتشعيبه وإطالة الردود والتشنيع في مسائل لا يقول بها الفلكيون، ولم تُطرح للبحث أصلاً.
المسألة الثانية: صحة بدء شهر شوال يوم الثلاثاء 30/9/2011:
من النقاط التي ردَّ بها أهل العلم على الفلكيين: أنَّ الفلكيين يشككون الناس في صحة صيامهم وإفطارهم، بل القول إنَّ بعضهم قد صام يوم الثلاثاء لأنَّه مُتممٌ لشوال.
وهذه النقطة كسابقتها: فإنَّ الفلكيين أعلنوا تقيُّدهم بقرارات المحكمة الشرعية لبدء الصوم وانتهائه، وكرروا ذلك في العديد من المقالات والمقابلات على مر السنوات السابقة، ولم يُعرف لهم رأيٌ مخالفٌ أو دعوةٌ أو اعتراضٌ على ذلك، وإنما كان النقد موجَّهًا لصحة شهادة الشهود من ناحية علمية بحتة، كما سيأتي.
وقد سبق كلام جمعية فلكيي جدة، وجاء في بيان فلكيي المشروع الإسلامي لرصد الأهلة: ''ونودّ أن نؤكّد أن نقدنا هو ليس لإعلان العيد ذاته، فنحن لا يزعجنا كفلكيين أن يكون العيد الثلاثاء أو الأربعاء، فهذا القرار يعود للمؤسسات المختصّة والمخوّلة...''.
أما ما قيل عن ارتياب البعض بصحة الفطر، أو انتشار شائعات بوجوب صوم يوم الثلاثاء، أو دفع كفارة لمن أفطره: فهذا ما لم يقل به أحد من الفلكيين قط.
كما أنَّ المتتبع لأحوالهم يجدهم ملتزمين ببداية الصوم ونهايته كما تقرره المحكمة ولم يصدر منهم مخالفة أو دعوة لمخالفة الرأي العام في ذلك.
ولو قاله لما صحَّ لأحدٍ أن يأخذ به، لأنهم ليسوا من أهل الفتوى شرعًا، ولا المخوَّلين بإصدار الفتاوى.
وقد نصَّ العديد من أهل العلم أنَّ الناس إذا اجتهدوا في تحري معرفة بداية شهر رمضان: فصاموا قبله بيوم أو بعده بيوم، أو في نهاية شهر رمضان وثبوت عيد الفطر: فأفطروا قبله بيوم أو بعده بيوم: فصيامهم وإفطارهم صحيح، الخطأ مرفوعٌ عنهم، لقول الرسول: (صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ) أخرجه البيهقي. ومعنى الحديث: أنَّ الناس لو أخطؤوا في إثبات دخول الشهر أو خروجه فليس عليهم إثمٌ في ذلك، ويُعدُّ صيامهم أو إفطارهم صحيحًا لا لبس فيه.
وكذلك فيما لو أخطؤوا في إثبات شهر ذي الحجة.
وبناء عليه: فإنَّ هذه المسألة ليست هي محل الخلاف، ولم يتطرق لها الفلكيون، ولم يثيروا حولها النزاع، فلا وجهَ للرد عليهم في ذلك، وتحميلهم مسؤولية بعض الإشاعات - التي لم يكن لها ذلك الانتشار الكبير في حقيقة الأمر - بل كان الواجب بيان الحكم الشرعي في هذه المسألة، لا سيما والأدلة عليها من القرآن والسنة وأقوال وأعمال السلف واضحةٌ صريحة، فيكون في ذلك بيانٌ للحكم الشرعي في المسألة، وزيادةُ علمٍ لعامة الناس بتحرير محل النزاع، وكيفية إدارة الخلافات العلمية والتعامل معها.
المسألة الثالثة: التأكد من صحة شهادة الشهود:
وهذه النقطة بالتحديد هي محل اعتراض الفلكيين ونزاعهم التي ينبغي مناقشتهم فيها، والتي سيكون التوسع في الحديث عنها.
مسألة قبول أو رد شهادة الشهود هي مسألة شرعيةٌ بحثها أهل العلم منذ القِدَم، ووضعوا لها الضوابط العديدة، ومن أهم ضوابطها: (أن تكون الشهادة منفكةً عَمَّا يُكذِّبها حِساً وعقلاً)، وهذا عامٌ في جميع القضايا المرفوع أمام القضاء، من حدود، وقصاص، وأمور مالية، وتوكيلات، وغيرها.
فمهما كانت القضية المرفوعة أمام القاضي، ومهما كان الشاهد فلا بدَّ أن تخلو شهادته مما يحكم عليها بالبطلان، ولا يتسع لضرب أمثلة على ذلك.
والشهادة على رؤية الهلال داخلةٌ في ذلك:
فالشاهد لا بدَّ أن تخلو شهادته مما يردُّها.
فلو شهد شاهدٌ على رؤية الهلال ليلة سبعٍ وعشرين، أو على رؤيته في جهةٍ غير الجهة التي يطلع منها، ونحو ذلك: فإنَّ شهادته لا تُقبل؛ لاستحالتها عقلاً.
قال السُّبكي في فتاواه: ''ولم يأت لنا نص من الشرع أنَّ كلَّ شاهدين تقبل شهادتهما سواء كان المشهود به صحيحًا أو باطلاً، ولا يترتب وجوب الصوم وأحكام الشهر على مجرد الخبر أو الشهادة'' أي أنَّ مُجرَّد قول الشخص: رأيتُ الهلال لا يقتضي قبول قوله، بل لا بد من تمحيص شهادته والنظر فيها.
الحكم بردِّ الشهادة لا يقتضي الحكم بكذب الشاهد:
فينبغي معرفة أنَّ رد شهادة الشهود لا يقتضي الحكم على الشاهد أنَّه كاذب، أو غير صادق، وهذه من المسائل المهمة التي ينبغي التنبه لها والاهتمام بها، وقد تؤثر في مسار قبول الشهادة أو ردها.
فكون الشاهد معروفًا بالصدق، أو التَّدين لا يقتضي قبول شهادته مباشرة؛ لأنَّ هناك عوامل أخرى تؤثر في شهادة الشهود، وعلى سبيل المثال:
1_ عدد الشهود: فلو شهد ثلاثة شهود على شخص في حادثة زنا لوجب رد شهادتهم مهما كان صدقهم وعدالتهم؛ لأنَّ من شروط الشهادة على الزنا أن يكونوا أربعة شهود.
2_ الشخص المشهود له: فقد ذهب العديد من أهل العلم إلى رد شهادة الشهود لأقاربهم في بعض المسائل بسبب القرابة.
3_ طبيعة المسألة المشهود فيها: فقد ذهب جمهور أهل العلم إلى عدم قبول شهادة النساء في الحدود والقصاص مهما كُنَّ صداقات وثقات.
4_ كما أنَّ هناك أسبابًا أخرى تتشابه مع ضوابط رواية الحديث: كرد الشهادة بسبب وهم الشاهد، أو نسيانه، أو اختلاط عقله، أو مخالفة شهادته لعددٍ أكبر من الشهود، أو لشهودٍ أوثق منه، وغير ذلك.
فإن رُدَّت شهادة الشهود: فليس ذلك لعدم صدقهم، أو عدم عدالتهم، بل لأسبابٍ عديدة مختلفة.
حال الهلال يوم الترائي الإثنين 29 رمضان:
ما سبق كان كلامًا نظريًا، ولتطبيق شروط الشهادة عمليًا يمكن النظر في عدة وقائع باختصار ومع الاقتصار على أهم ما فيها:
1_ كان مكان القمر في جميع مناطق المملكة تحت ارتفاع درجة واحدة، مما يعني أنه كان في غاية الانخفاض والاقتراب من الشمس، فضلاً عن أنه سيغرب مع الشمس في عددٍ من المناطق، وهذه ليست من الحساب الفلكي الذي يرفضه أهل العلم في شيء، بل هي حقائق كونية لا غبار عليها، ولا يختلف حولها أحد في العالم، ويدخل فيها تحديد مواعيد زوال الشمس وغروبها الذي ينبني عليه تحديد أوقات الصلاة، كما يدخل فيها تحديد أوقات الخسوف والكسوف ومرور الكواكب بالقرب من الأرض وغير ذلك، والتي أثبت الواقع صحتها ودقتها.
وعودة إلى إمكانية رؤية الهلال وهو على هذه الدرجة من الانخفاض والقرب من الشمس: فقد قال ابن تيمية - رحمه الله - في مجموع الفتاوى: ''إذا كان بُعدُه مثلاً عشرين درجة: فهذا يُرى ما لم يَحُل حائل، وإذا كان على درجةٍ واحدةٍ فهذا لا يُرى، وأمَّا حول العشرة: فالأمرُ فيه يختلف باختلاف أسباب الرؤية'' (25/186)، ويقصد بذلك درجات الفلك.
فقد جزم ابن تيمية رحمه الله بعدم رؤية الهلال في بعض الظروف، مع أنَّ أقواله هي عمدة القائلين برفض الحساب.
3_ وقد أيَّدت الإحصاءات المختلفة للفلكيين ما قاله ابن تيمية:
فقد جاء في تقرير للأستاذ عبد العزيز الشمري: (لجان التحري الرسمية في مختلف مناطق المملكة وعددها ست لجان وعلى مدى الثلاثين عاما الماضية وباستخدام أحدث الوسائل العلمية للرصد الفلكي من مناظير فلكية - تلسكوبات - ودرابيل ومن المشهورين بالرؤية مع هذه اللجان لم تثبت رؤية الهلال عندما يكون ارتفاع الهلال فوق الأفق بعد غروب الشمس في موقع التحري درجة فما دون.
وجميع المراصد الفلكية العالمية لم تثبت رؤية الهلال سواء بالعين المجردة أو من خلال المناظير الفلكية - التلسكوبات - في أي موقع على الكرة الأرضية رؤية الهلال عندما يكون أقل من درجة).
وفي ليلة تحري هذا العام 1432هـ لم تتمكن جميع المراصد في المملكة وبعض الدول الخليجية من رؤية الهلال مع تمكن تلك الأجهزة من معرفة وتحديد مكان القمر من خلال تقنيات وحسابات إلكترونية خاصة، وهي المراصد القوية المُكبِّرة الشديدة الوضوح.
ويُلحظ هنا: اتفاق كلمة الفلكيين النظرية، مع أعمالهم التطبيقية في أماكن متعددة من العالم على مدى سنوات طويلة، مع كلام شيخ الإسلام ابن تيمية منذ مئات السنين، ويدخل هذا في معرفة حال المشهود عليه.
3_ ومع كل ما سبق: شهد عددٌ من الشهود برؤية هلال شهر شوال في الظروف التالية:
أ_ كانت (الرؤية) في منطقة يغرب فيها القمر مع الشمس، ويكون عبارة خيط رفيع جدًا من النور بجانب وهج الشمس، بحيث لا يمكن رؤيته بالمناظير المقربة، فضلاً عن العين المُجرَّدة.
ب_ لم يتمكن أحد من رؤية الهلال في مناطق غرب المملكة والأكثر ارتفاعًا سواءً بالعين المُجردة أو التلسكوبات، ومن الأمور البدهية في علم الفلك أنَّ القمر يشرق من الغرب باتجاه الشرق؛ لذا يكون في الجهات الغربية أعلى في السماء، وأوضح، فإذا لم تمكن رؤيته في الغرب فلن يُرى في الشرق.
ج_ أسهم عددٌ كبيرٌ من علماء الفلك والمختصين وهم العارفون بحركات الكواكب وأماكنها، والمزودون بأفضل الوسائل التقنية في تحري الهلال في عدة دول، ومع ذلك لم يتمكنوا من رؤية الهلال بأي وسيلةٍ من الوسائل.
وهنا يكمن تساؤل الفلكيين:
إذا دلَّت الحقائق العلمية النظرية والتطبيقية على عدم الرؤية؛ لاستحالتها منطقيًا بسبب مكان القمر من الشمس وظروف غيابه ونحو ذلك، ولم تستطع الآلات الشديدة التقنية والمُدارة بيد المختصين في عدة دول من رؤية الهلال، ثم جاء من يُخبِر برؤيته للهلال بالعين المُجرَّدة:
فهل هذه الشهادة قد انفكَّت عما يُكذِّبها أو يردُّها؟ أم أنَّ جميع الدلائل والقرائن تُشير إلى عدم قبولها؟
ألم تُخالف هذه الشهادة المعقول من حيث إن الشهود تمكنوا بأعينهم المُجرَّدة من رؤية ما لم تتمكن من رؤيته المناظير المُقرِّبة؟
أم يُخالف هؤلاء الشهود المقطوع به من علم الفلك أنَّ الهلال إذا لم يُر في الغرب بسبب انخفاضه وعدم تميُّزه عن الشمس فإن رؤيته إلى الشرق يكون مستحيلاً؟ لأنَّ الهلال يُشرق من الغرب، يكون في الغرب أعلى في السماء من الشرق؟
ألم يُخالف هؤلاء الشهود بشهادتهم العدد الأكبر والأكثر انتشاراً والأعلم بمكان الهلال وظروفه من المختصين في الفلك؟
ألا يستحق كل ما سبق من التساؤلات ولو إثارة شيء من الشك في صحة شهادة هؤلاء الشهود، مما يدفع إلى تمحيصها، ووضع ضوابط لها، والتأكد منها على الأقل؟
واجب القضاة مع شهود الرؤية:
مما هو معلومٌ في علم القضاء: اشتراط أن يكون القاضي عارفًا عالمًا بالمسألة التي سيقضي بها، فإن كان يقضي في الأعراض، أو الدماء، أو الأموال فلا بد أن يكون عارفًا للمسألة التي يقضي فيها؛ حتى يتمكن من تصوُّر المسألة التي تُعرض عليه، ويحكم فيها عن كامل معرفة وإدراك، وحتى يتمكن من مناقشة الأدلة والبيِّنات والشهود، وهذا عامٌ في جميع المسائل.
ففي التحقيق في جريمة السرقة مثلاً: لا بد أن يكون القاضي عارفًا بالنصاب الذي يكون فيه القطع، والفرق بين السرقة والاختلاس والغش، وما يُعدُّ حرزًا وما لا يُعد، وهكذا.
وشهادة الشهود على رؤية الهلال تدخل في ذلك.
وبما أنَّ رؤية الهلال لها خصوصيةٌ من حيث دقة أمور علم الفلك، وتوقُّع عدم إلمام العديد من القضاة بأمور الفلك أو تمحيص شهادة الشهود: لم لا يستعين القضاة بعلماء الفلك في مناقشة الشهود والتأكد من صحة ما رآه الشهود، وليس هذا بدعًا في مجال الشهادة، فما زالت المحاكم تستدعي المختصين من مختلف التخصصات الطبية وغيرها للتأكد من حال الشهود، وصدق أقوالهم، فلماذا يُستثنى شهود رؤية الهلال من ذلك، ويُحكم بصحة شهادتهم بمجرد الحكم بصدقهم وديانتهم؟ وربما يُكتفى بسؤالهم عن بعض الأمور العامة بالنسبة للهلال والتي لا يمكن من خلالها الحكم بقبول شهادتهم أو ردِّها.
تفسير الفلكيين لما رآه الشهود:
احتوت البيانات التي أصدرها الفلكيون قبل يوم التحري في التنبيه إلى أنَّ مكان التحري في السماء سيشهد وجود عددٍ من الكواكب الأخرى الشبيهة بهلال القمر، وهو أمرٌ اعتيادي؛ إذ لا تخلو السماءُ من شروق و غروب الكواكب على مدى ساعات الأيام، خاصة مع اختلاف الكواكب ودوراتها الزمنية.
وعندما أعلن الشهودُ رؤيتهم هلال شهر شوال نأى الفلكيون بأنفسهم عن القدح في صدق الشهود، أو تكذيبهم، أو الرد على أشخاصهم، وإنما تحدثوا الظروف المُحيطة بالرؤية، ومن ذلك تفسير ما يمكن أن يكون الشهود قد رأوه ابتعاداً عن تكذيبهم أو القدح في عدالتهم.
وقد تناقلت الأخبار اختلاف الفلكيين في تحديد الكوكب الذي رأوه، وعَدُّوا ذلك من التناقض الذي يدل على عدم مصداقية الفلكيين.
والحقيقة أنَّ الفلكيين لم يتناقضوا لأنَّهم لم يجزموا بحقيقة ما رآه الشهود، وكيف يجزمون بأمر لا يعلمون عنه؟ ثم إنَّهم لم يقطعوا في بيانهم بل كانت عبارة عن ترجيحات وافتراضات تحتمل الصحة وعدمها.
وأخيراً: فإن محل الخلاف مع الفلكيين وباختصار وتلخيص لكل ما سبق:
هل تُقبل شهادة الشهود وإن احتفَّت بها القرائن التي تدل على رفضها وعدم قبولها؟ وهل من سبيل لوضع ضوابط للتأكد من صحة شهادة الشهود كما في المسائل الأخرى؟
وليس من محل الخلاف: الأخذ بالحساب الفلكي، ولا التشكيك في بداية صيام الناس أو انتهائها.
والله من وراء القصد.
-----------------------
نقلاً عن جريدة الاقتصادية السعودية

0 التعليقات:

إرسال تعليق

تعليقك يعني لي الكثير ، فلا تبخل به !