المبشرون بالجنة ليسوا عشرة - للشيخ القاضي

قيم تربوية في حياة المبشرين بالجنة 

بقلم فضيلة الشيخ/ محمد عبد الحكيم القاضي (حفظه الله)


على رأس الصحابة، والأمة كلها، يذكر عشرة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، جمعوا في جملتهم عناصر من الخير متعددة، وروافد من البر متنوعة، بحيث يصلح أن يكونوا معا نموذجًا لأمة فريدة متميزة. وقد أطلق على هؤلاء اسم "العشرة المبشرون بالجنة" وذلك للحديث الصحيح المشهور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذى بشرهم بالجنة واحدًا واحدًا حين قال:
"أبو بكر فى الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة... الحديث"(1).
وقد شاع هذا الاسم حتى أصبح اصطلاحًا عند العامة والخاصة، وحسبنا أن يبدأ الإمام أحمد ابن حنبل مسنده الضخم في الحديث بذكر رواية "العشرة"، ويقصد العشرة المبشرين؛ لأن مصطلح العشرة أصبح ينطلق بداهة على هؤلاء العشرة، فهناك الذى يصنف "مسند العشرة" والذي يصنف "مناقب العشرة" وهم يعنون هؤلاء العشرة الصحابة المميزين على الأمة ببشارة النبي صلوات الله عليه صلى الله عليه وسلم إياهم.

مبشرون آخرون
وعلى الرغم مما في ذيوع هذا (المصطلح) من دلالات تاريخية وتربوية ينبغي أن يفرد لها بحث يستكشف أعماقها، أقول: على الرغم من ذلك فقد غطى ذيوعه على بعض الأحاديث المفردة الأخرى التي تصرح بالبشارة بالجنة لآخرين من الصحابة، لهم ميزات خلقية خاصة جعلتهم حقيقين بهذه البشارة.
ولو ذهبنا نعد هؤلاء المبشرين ومناقبهم، لأعيانا الاستقصاء، فلعل في الإشارة إلى بعضهم هنا إيحاءً بما كانوا عليه من عظيم البر، وكبير القدر، وإيماءً إلى بعض الدروس العملية من القدوة للكبير والصغير، والشيخ والشاب، والرجل والمرأة، والغني والفقير من أمتنا في ظروفها الحضارية المليئة بالتحدي والمجابهة.

أم المؤمنين خديجة
فتبرز السيدة خديجة بنت خويلد(2) رضي الله عنها أقدم أمهات المؤمنين، وأول الناس إسلامًا على الإطلاق(3)، ومثال الزوجة الصالحة الأنيسة الودود، التى تقف عند الشدائد موقف الساعد والظهير، قال لها النبى صلى الله عليه وسلم يوم حراء: "قد خشيت على نفسي" فأجابته بتأييد الوامق، وتأكيد الواثق: "كلا، فوالله لن يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق"(4).
إن مواقف خديجة من الدعوة لتحتاج إليها كل مسلمة، خصوصًا صاحبات الشرف والمنصب والحظوة، والمثقفات، وأزواج الدعاة إلى الله تعالى؛ فهى مع زوجها النبي صلى الله عليه وسلم خطوة بخطوة، لا تراعيه وحده، وإنما تحمل هم الدعوة إلى الله في مراحلها وأفرادها ووسائلها، حتى كانت وفاتها سببا من أسباب طمع المشركين فى تشديد الأذى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، قال ابن إسحاق: "تتابعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المصائب بهلاك أبي طالب وخديجة، وكانت وزيرة صدق" ولم يكتم النبي صلوات الله عليه إحساسه بفقدها، إذ قال لعائشة رضي الله عنها: "لا والله ما بدلني الله خيرًا منها؛ آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد"(5). وقال الذهبي: "ومناقبها جمة، وهي ممن كمل من النساء، كانت عاقلة جليلة دينة، مصونة، كريمة من أهل الجنة"(6).
ولقد كانت بشارتها بالجنة بشارة خاصة من رب العزة سبحانه، قال أبو هريرة رضي الله عنه: "أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: هذه خديمة أتتك، معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هى أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومنى، وبشرها ببيت فى الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب(7).
والقصب، بفتحتين اللؤلؤ المجوف.

بلال بن رباح(8)
"بم سبقتني إلى الجنة؟ دخلت الجنة فسمعت خشخشتك بين يدي!"(9). قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال، وحاشا لبلال أن يسبق رسول الله إلى الجنة، ولكنها مواصلة البر بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ومداومة الوفاء له، فهو يمشي بين يدي النبي في الجنة كما كان يمشي بين يديه في الدنيا، حفاظًا عليه وصونا لنفسه الشريفة من الأذى، قال الحافظ ابن حجر: "وكأنه أشار إلى بقاء بلال على ما كان عليه في حال حياته واستمراره على قرب منزلته، وفيه منقبة عظيمة لبلال"(10).
ووفاء بلال لرسول الله صلوات الله عليه يفوق الوصف، فضلا من وفائه لله ولدعوة الحق، التي كانت سببًا في شدة أذاه، حتي احتمل مالا يحتمله أحد، من التنكيل، والضرب، والتفنن في صنوف العذاب، قال محمد بن إسحاق: "... وكان صادق الإسلام، طاهر القلب، وكان أمية يخرجه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على ظهره..."(11) قال عبد الله بن مسعود: "... وأما سائرهم (يعني باقي السابقين للإسلام) فآخذهم المشركون، وألبسوهم أدرع الحديد، ثم صهروهم في الشمس، فما منهم أحد إلا واتاهم على ما أرادوا إلا بلالا، فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه، فأعطوه الولدان (يعني: وهو مقيد يزحف) فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة، وهو يقول: أحد أحد(12).
وقد أعتقه أبو بكر رضي الله عنه، كان لله وللإسلام أكثر وفاءً، فقد شهد بدرًا والمواقع، وفتح مكة، وأذن فوق الكعبة يوم الفتح، وكان عابدًا مجاهدًا، قال لأبي بكر الصديق رضي الله عنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم : "إن كنت إنما اشتريتني لنفسك فأمسكني، وإن كنت إنما اشتريتني لله فدعني وعمل الله". ويبدو أن أبا بكر تركه للعبادة والجهاد في سبيل الله على اختلاف بين الروايات في ذلك.
نعم: كان بلال سيدًا، كما قال عمر بن الخطاب: "أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا"، فالسيادة والنُّبل ليسا بالنسب، وإنما بالانتماء للشرف والمجد وعلو الدرجات، ومن ثم فقد أنصف الحافظ الذهبي حين أدرجه في "سير أعلام النبلاء"، وقال: "من السابقين الأولين الذين عذبوا في الله، شهد بدرًا، وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم على التعيين بالجنة، وحديثه في الكتب"(13).

سعد بن معاذ(14)
وهو رجل الشدائد والمواقف والناصر في ساعات العسرة، عرف مصعب بن عمير والصحابة الإسلام في وجهه قبل أن يتكلم، لإشراقه وتسهله، وكان إسلامه فتحًا للإسلام ولقومه من الأوس، فأسلموا جمعيا، قال ابن هشام "قالوا: فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلمًا أو مسلمة"(15).
وأول ما تلمح في سيرة سعد رضي الله عنه في الإسلام، هو مدى إفادته من مكانته وموقفه الاجتماعي في توسيع إمكانات الدعوة، وتمديد عطاءاتها. وهو ملمح يحتاجه كل صاحب منصب، أو رئاسة، أو زعامة؛ ها هو ذا في إبان غزوة بدر، والنبي يريد اهتبال الفرصة ليشفي صدر المهاجرين من عدوهم من الكفار، الذي أخرجوهم من ديارهم وأموالهم لأنهم قالوا: ربنا الله.
وكان الأنصار قد بايعوا رسول الله في العقبة على منعه وحمايته في ديارهم، فلما عزم النبي صلوات الله عليه على الخروج استشارهم في جماعة من أصحابه ليتحسس ما عندهم، فتكلم المهاجرون فأحسنوا، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استشارهم ثانية، فأدرك سعد بن معاذ بحسه الصادق، وذكائه الصافي أنه إنما يريد الأنصار، وهنا ينطق الوفاء والولاء والمسئولية الرفيعة على لسان سعد "يا رسول الله: كأنك تعرض بنا؛ لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقا علبها ألا ينصروك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم؛ فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا أحب إلينا مما تركت، فوالله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك، ووالله لئن استعرضت بنا هذا البحر خضناه معك"(16).

أخلاق السيادة وتبعاتها
إن الذي يهزك في هذه الكلمات الناطقة بالرجولة الحقة، والولاء الخالص، ليس هو النبض الحماسي الذي ينطوي على إيمان عميق، وتضحية صادقة فقط، وإنما هو أن سعد بن معاذ لم يفكر أن ينتظر حتى يستشير الأوس بله الأنصار جميعا ليرى ما رأيهم في هذه القضية المصيرية بالنسبة لهم، خصوصًا وأن بنود العهد مع النبي الكريم لا تشمل وجوب الدفاع عنه خارج حدود المدينة، وذلك أن منطق اللحظة فرض نفسه على سيد القوم، والعقل المؤمن هنا لا يرى من المروءة ومكارم الأخلاق أن يتبصر في حقوقه النظرية حول شمولية الدفاع أو محدوديته، وإنما يراها في حق المصطفى صلوات الله عليه واقعًا في تمديد العهد وتوسيع نطاق الدفاع عنه ومنعه، بفاعلية قوله تعالى: ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه {التوبة:120}.
وما كان قرارًا للسيد فهو قرار للقوم بطريق التبعية إن لم يكن بطريق الاتباع، وإلا ففيم السيادة؟
ومواقف سعد بن معاذ التي تتسم بعبقرية السيادة كثيرة، إلا أننا تجتزيء منها هذا الموقف الذي أثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو موقفه من يهود بني قريظة وحكمه عليهم(17)؛ وكان سعد رضي الله عنه يدعو الله. بعد جرحه في غزوة الخندق ألا يميته حتى يقر عينه من بني قريظة"(18). فلما كثرت خيانات اليهود لله ورسوله بالمدينة، وتقرر إنهاء جرائمهم وفسادهم، حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين ليلة حتى نزلوا على حكمه صلى الله عليه وسلم .
وهنا يقع اختيار القائد الملهم من ربه على النائب المناسب لإصدار الحكم، وهو سعد بن معاذ، وهو يعلم أن بني قريظة هم موالي الأوس عشيرة سعد رضي الله عنه، ومن ثَم فإن حكمه سيرضى عنه الأنصار خصوصًا الأوس ولن تستنكره اليهود. ثم هو يعرف من يكون سعد بن معاذ، الذي لا يحتاج إلى توصية إذا تعلق الأمر بنصرة الله رسوله.
وجاء سعد بن معاذ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار والأوس من حوله يستحثونه أن يحسن إلى بني قريظة في حكمه لأنهم مواليهم، وهو صامت، فلما أكثروا عليه، قال: "لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم". حتى بلغوا رسول الله، فأخبره أن القوم قد نزلوا على حكمه، قال سعد للأوس مستوثقًا: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيهم لما حكمت؟ قالوا: نعم. قال سعد: فإني أحكم فهم أن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذراري والنساء(19). أقول: بخ بخ!! هكذا تكون السيادة، تلك السيادة التي تتجافى ساعة نداء الحق عن كل علائق التحالفات والمعاهدات المؤقتة، التي ينبغي أن تنتهي عند حلول ساعة (الصفر)، وهذا الدرس موجه خصيصًا للسادة في كل زمان، خصوصًا هذا الزمان الذي دأبوا فيه على احترام مواثيق وتعاهدات نبذها أطرافها، ومسحوا بها أحذيتهم، مع الأذى الشديد منهم لله ولرسوله وللمؤمنين. أفلا كان موقف سعد بن معاذ منارة رشد وسراج اهتداء؟
ولكي يتأكد الأوس والأنصار والمسلمون القادمون أيضًا أن حكم سعد لم يكن به شبهة إجحاف، أو ذرة هوى، ينطق الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بقوله، مؤيدًا هذا الحكم: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات"(20).
من أجل هذا وكثير على شاكلته من سيرة هذا السيد الفقيه الواعي لم يكن مستغربًا أن يخبر النبي أصحابه ومن بعدهم أن عرش الرحمن قد اهتز لموت سعد بن معاذ، ولا هو مستغرب أن يرى القائد الكريم أصحابه يتعجبون لحلة الحرير الرقيق فيقول لهم: "أتعجبون من لين هذه؟ لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها وألين"(21).
وتبقى القيمنعم.. تذهب الرجال من حيث كونها لحومًا وعظامًا وجوارح، لكن يبقى الرجال أنفسهم باعتبارهم قيما ومبادئ وقيادات تربوية للأمة، وزادًا فكريا وحضاريًا لها في محنها وتحدياتها مع أعدائها،، ونبعًا فياضًا بالعطاء لها فى إدارة واقعها واستشراف مستقبلها.
وهذا هو جل ما قصدناه من وراء هذه الدراسة. والله من وراء القصد
إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد {ق:37}.

الهوامش

(1) أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما:
المسند: 193/1
سنن الترمذي: كتاب المناقب، باب عبد الرحمن بن عوف ح3747.
(2) ترجمتها في: (أسد الغابة: 78/7، الإصابة: 281/4، سير أعلام النبلاء: 109/2، السمط الثمين للمحب الطبري ط- القيمة ص 33:55).
(3) قال ابن الأثير في أسد الغابة 78/7: "خديجة أول خلق الله أسلم، بإجماع المسلمين".
(4) الحديث رواه الجماعة:
وانظر: البخاري (كتاب بدء الوحي، باب كيف بدأ الوحي ح3)، ومسلم
(5) سيرة ابن هشام: 426/1 .
(6) سير أعلام النبلاء للذهبي: 1 - 109،110 .
(7) متفق عليه:
(8) ترجمته في: الطبقات: 174/3، الاستيعاب 178/1، الإصابة: 165/1، سير أعلام النبلاء: 347/1).
(9) البخاري ومسلم وغيرهما بألفاظ مختلفة.
(10) الفتح: 35/3 .
(11) سيرة ابن هشام ( دار الحديث : 262/1).
(12) حلية الأولياء أبي نعيم: 149/1 .
(13) سير أعلام النبلاء: 347/1 .
(14) ترجمته في:
(الطبقات: 67/3، أسد الغابة: /4 67،68، الإصابة: 87/3).
(15) سيرة ابن هشام: 43/2 .
(16) البداية والنهاية: 395/2 .
(17) الحديث حسن الإسناد:
وقد رواه أحمد في المسند 141/6 .
وراجع: سيرة ابن هشام 226/2، الإصابة 171/4 .
(18) ابن هشام: 226/2، المسند 141/6 .
الإصابة: 4-171.
(19) راجع الحاشية التالية.
(20) البخاري ومسلم وغيرهما.
(21) متفق عليه:

----------
المصدر: منتدى طريق الحقيقة

0 التعليقات:

إرسال تعليق

تعليقك يعني لي الكثير ، فلا تبخل به !