منهج ابن القيم في التعرف على الله

منهج ابن القيم في التعرف على الله 

كتبه : أحمد أبو رواش
-------------------------------
الحمد وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن تبعه، وبعد:
فإن معرفة الله -عز وجل- هي أصل الدين، وركن التوحيد، وأول الواجبات؛ ومن عرف الله أحبه، وصفا له العيش. ولا تصل القلوب إلى مُناها حتى تصل إلى مولاها، ولن تصل إليه حتى تعرفه حق المعرفة.
لذا فقد اعتنى علماء أهل السنة على مر العصور بباب الأسماء والصفات، وظهرت عنايتهم بهذا الباب في جوانب، منها:
1 ـ العناية بتقعيد القواعد التي تضبط فهم هذا الباب فهمًا جيدًا على وفق الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة.
2 ـ تفنيد شبهات أهل البدع، والرد عليها ردًا قاطعًا مفحمًا.
3 ـ مخاطبة القلوب بمعاني الأسماء والصفات، وتربية النفس على التأثر بها حالًا وسلوكًا.

وهذه الجوانب ظاهرة في مصنفاتهم، وعند التأمل نجد أن جانبي التقعيد والردود قد نالا الحظ الأوفر من الاهتمام والتصنيف، وأن الجانب الأخير قلّ من يتعرض له!، مع أن هذا الجانب من المفترض أن يكون هو الغاية المقصودة من التقعيد والردود؛ وإلا فما الفائدة من أن نقعد القواعد ونردّ على المبتدعة ثم لا ننتفع بذلك في خاصة أنفسنا؟!
إن إغفال هذا الجانب من جوانب دراسة الأسماء والصفات أحدث في واقعنا فجوة كبيرة وانفصالًا مخيفًا بين العقيدة والسلوك!
لذا فلزامًا على من يدرس العقيدة أو يدرسها أن يسلك مسلكًا متوازنًا بين جانب التأصيل والرد على الشبهات،
و جانب مخاطبة القلوب وتحريكها بهذه العقيدة؛ حتى نرى هذه العقيدة حية في القلوب، مؤثرة في السلوك...

وقد كان للإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ نصيبًا موفورًا في التركيز على هذا الجانب مع توازنه في عرض بقية الجوانب، فهو هو الذي صنّف مدارج السالكين وخاطب فيها القلوب، وعالج فيها أمراض النفوس، هو نفسه الذي صنّف في الرد على سائر طوائف المبتدعة وأتى على قواعدهم فخرّ عليهم السقف من فوقهم!
وكما قدمنا أن جانبي التقعيد والردود قد أخذا حقهما في التصنيف والتأليف عند أغلب علمائنا المتقدمين والمتأخرين فقد رأينا أن نركز على جانب التأثر بالأسماء والصفات في منهج الإمام ابن القيم
لذا فقد جمعنا في مقالتنا هذه نقولات رائقة، يتحدث فيها الإمام ابن القيم عن أسماء الله وصفاته وأفعاله بأسلوب يأسر القلوب، ويوقظ الإيمان، ويشعل المحبة...، وهذا هو الغرض المقصود من دراسة الأسماء والصفات
هذه النقولات تظهر لك عبقرية إمامنا ابن القيم في عرض العقيدة، وهدفنا من جمع هذه النقولات؛
أولًا: أن نتعلم من إمامنا المبجل كيف ندرس الأسماء والصفات، وكيف نخاطب الناس بها.
ثانيًا: لنخاطب قلوبنا ونكرر التأمل لهذه النقولات الرائقة؛ عساها أن ترقق القلوب، وتقرب من علام الغيوب. 

فهيا نرحل مع إمامنا في هذه الرحلة الماتعة الشيقة، نقرأ بأعيننا، ونتأمل بعقولنا؛ لتطمئن قلوبنا بمعرفة ربنا... 

ها هو الإمام ابن القيم يحدثنا بكلام قيم عن الطريق الذي من خلاله نصل إلى المعرفة الصحيحة بالله-عز وجلّ- يقول-رحمه الله- في الفوائد: الرب تعالى يدعو عباده في القرآن الي معرفته من طريقين:
أحدهما: النظر في مفعولاته.
والثاني: التفكر في آياته وتدبرها فتلك آياته المشهودة وهذه آياته المسموعة المعقولة فالنوع الأول كقوله: (إن في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس...) إلي آخرها وقوله: (إن في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب...) وهو كثير في القرآن.
والثاني كقوله: (أفلا يتدبرون القرآن...) وقوله:(أفلم يدبروا القول...) وقوله: (كتاب أنزلناه اليك مبارك ليدبروا آياته...) وهو كثير أيضا.
فأما المفعولات فأنها دالة على الأفعال،  والأفعال دالة على الصفات،  فإن المفعول يدل علي فاعل فعله،  وذلك يستلزم وجوده وقدرته ومشيئته وعلمه،  لاستحالة صدور الفعل الاختيارى من معدوم أو موجود لا قدرة له ولا حياة ولا علم ولا ارادة، ثم ما في المفعولات من التخصيصات المتنوعة دال على ارادة الفاعل، وإن فعله ليس بالطبع بحيث يكون واحدا غير متكرر وما فيها من المصالح والحكم والغايات المحمودة دال على حكمته تعالى وما فيها من النفع والاحسان والخير دال على رحمته وما فيها من البطش والأنتقام والعقوبة دال على غضبه وما فيها من الاكرام والتقريب والعناية دال على محبته وما فيها من الاهانة والابعاد والخذلان دال على بغضه ومقته وما فيها من ابتداء الشيء في غاية النقص والضعف ثم سوقه الى تمامه ونهايته دال على وقوع المعاد وما فيها من أحوال النبات والحيوان وتصرف المياه دليل على امكان المعاد وما فيها من ظهور آثار الرحمة والنعمة على خلقه دليل على صحة النبوات وما فيها من الكمالات التي لو عدمتها كانت ناقصة دليل على أن معطي تلك الكمالات أحق بها فمفعولاته من أدل شيء على صفاته وصدق ما أخبرت به رسله عنه فالمصنوعات شاهدة تصدق الآيات المسموعات منبهه علي الاستدلال بالآيات المصنوعات قال تعالى:(سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتي يتبين لهم أنه الحق) أي أن القرآن حق فاخبر انه لا بد من ان يريهم من آياته المشهودة ما يبين لهم أن آياته المتلوة حق ثم أخبر بكفاية شهادته على صحة خبره بما أقام من الدلائل والبراهين علي صدق رسوله فآياته شاهدة بصدقة وهو شاهد بصدق رسوله بآياته وهو الشاهد والمشهود له وهو الدليل والمدلول عليه فهو الدليل بنفسه على نفسه كما قال بعض العارفين كيف أطلب لدليل على من هو دليل علي كل شيء فأي دليل طلبته عليه فوجده أظهر منه ولهذا قال الرسل لقومهم: (أفي الله شك) فهو أعرف من كل معروف وأبين من كل دليل فالأشياء عرفت به في الحقيقة وان كان عرف بها في النظر والاستدلال بأفعاله وأحكامه عليه 

معنى البصيرة في أسماء الله وصفاته، 
فيقول في مدارج السالكين:  والبصيرة على ثلاث درجات من استكملها فقد استكمل البصيرة بصيرة في الأسماء والصفات وبصيرة في الأمر والنهي وبصيرة في الوعد والوعيد.
فالبصيرة في الأسماء والصفات أن لا يتأثر إيمانك بشبهة تعارض ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله بل تكون الشبه المعارضة لذلك عندك بمنزلة الشبه والشكوك في وجود الله فكلاهما سواء في البلاء عند أهل البصائر

وعقد هذا أن يشهد قلبك الرب تبارك وتعالى مستويا على عرشه متكلما بأمره ونهيه بصيرا بحركات العالم علويه وسفليه وأشخاصه وذواته سميعا لأصواتهم رقيبا على ضمائرهم وأسرارهم وأمر الممالك تحت تدبيره نازل من عنده وصاعد إليه وأملاكه بين يديه تنفذ أوامره في أقطار الممالك موصوفا بصفات الكمال منعوتا بنعوت الجلال منزها عن العيوب والنقائص والمثال هو كما وصف نفسه في كتابه وفوق ما يصفه به خلقه حي لا يموت قيوم لا ينام عليم لا يخفى عليه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض بصير يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء سميع يسمع ضجيج الأصوات بإختلاف اللغات على تفنن الحاجات تمت كلماته صدقا وعدلا وجلت صفاته أن تقاس بصفات خلقه شبها ومثلا وتعالت ذاته أن تشبه شيئا من الذوات أصلا ووسعت الخليقة أفعاله عدلا وحكمة ورحمة وإحسانا وفضلا له الخلق والأمر وله النعمة والفضل وله الملك والحمد وله الثناء والمجد أول ليس قبله شيء وآخر ليس بعده شيء ظاهر ليس فوقه شيء باطن ليس دونه شيء أسماؤه كلها أسماء مدح وحمد وثناء وتمجيد ولذلك كانت حسنى وصفاته كلها صفات كمال ونعوته كلها نعوت جلال وأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة وعدل كل شيء من مخلوقاته دال عليه ومرشد لمن رآه بعين البصيرة إليه لم يخلق السموات والأرض وما بينهما باطلا ولا ترك الإنسان سدى عاطلا بل خلق الخلق لقيام توحيده وعبادته وأسبغ عليهم نعمه يتوسلوا بشكرها إلى زيادة كرامته تعرف إلى عباده بأنواع التعرفات وصرف لهم الآيات ونوع لهم الدلالات ودعاهم إلى محبته من جميع الأبواب ومد بينه وبينهم من عهده أقوى الأسباب فأتم عليهم نعمه السابغة وأقام عليهم حجته البالغة أفاض عليهم النعمة وكتب على نفسه الرحمة وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته تغلب غضبه...

وقال في طريق الهجرتين ـ وهو يصف حال أحد السابقين ـ: (( فإذا وضع أحدهم جنبه على مضجعه صعدت أنفاسه إلى إلهه ومولاه واجتمع همه عليه متذكرا صفاته العلى وأسماءه الحسنى ومشاهدا له في اسمائه وصفاته قد تجلت على قلبه أنوارها فانصبغ قلبه بمعرفته ومحبته فبات جسمه في فراشه يتجافى عن مضجعه وقلبه قد أوى إلى مولاه وحبيبه فآواه إليه وأسجده بين يديه خاضعا خاشعا ذليلا منكسرا من كل جهة من جهاته 
فيا لها سجدة ما أشرفها من سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء وقيل لبعض العارفين أيسجد القلب بين يدي ربه قال أي والله بسجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم القيامة فشتان بين قلب يبيت عند ربه قد قطع في سفره إليه بيداء الأكوان وخرق حجب الطبيعة ولم يقف عند رسم ولا سكن إلى علم حتى دخل على ربه في داره فشاهد عز سلطانه وعظمة جلاله وعلو شأنه وبهاء كماله وهو مستو على عرشه يدبر أمر عباده وتصعد إليه شؤون العباد وتعرض عليه حوائجهم وأعمالهم فيأمر فيها بما يشاء فينزل الأمر من عنده نافذا فيشاهد الملك الحق قيوما بنفسه مقيما لكل ما سواه غنيا عن كل من سواه وكل من سواه فقير إليه يسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شأن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويفك عانيا وينصر ضعيفا ويجبر كسيرا ويغني فقيرا ويميت ويحيي ويسعد ويشقي ويضل ويهدي وينعم على قوم ويسلب نعمته عن آخرين ويعز أقواما ويذل آخرين ويرفع أقواما ويضع آخرين ويشهده كما أخبر عنه أعلم الخلق به وأصدقهم في خبره حيث يقول في الحديث الصحيح يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق الخلق فإنه لم يغض ما في يمينه وبيده الأخرى الميزان يخفض ويرفع فيشاهده 
كذلك يقسم الأرزاق ويجزل العطايا ويمن بفضله على من يشاء من عباده بيمينه وباليد الأخرى الميزان يخفض به من يشاء ويرفع به من يشاء عدلا منه وحكمة لا إله إلا هو العزيز الحكيم فيشهده وحده القيوم بأمر السموات والأرض ومن فيهن ليس له بواب فيستأذن ولا حاجب فيدخل عليه ولا وزير فيؤتى ولا ظهير فيستعان به ولا ولي من دونه فيشفع به إليه ولا نائب عنه فيعرفه حوائج عباده ولا معين له فيعاونه على قضائها أحاط سبحانه بها علما ووسعها قدرة ورحمة فلا تزيده كثرة الحاجات إلا جودا وكرما ولا يشغله منها شأن عن شأن ولا تغلطه كثرة المسائل ولا يتبرم بإلحاح الملحين لو اجتمع أول خلقه وآخرهم وإنسهم وجنهم وقاموا في صعيد واحد ثم سألوه فأعطى كلا منهم مسألته ما نقص ذلك مما عنده ذرة واحدة إلا كما ينقص المخيط البحر إذا غمس فيه ولو أن أولهم وآخرهم وإنسهم وجنهم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منهم ما زاد ذلك في ملكه شيئا ذلك بأنه الغني الجواد الماجد فعطاؤه كلام وعذابه من كلام إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ويشهده كما أخبر عنه أيضا إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه...))


هذا ما تيسر جمعه من هذه الأزهار اليانعة التي قطفناها من بستان الإمام ابن القيم، وهي غيض من فيض هذا الإمام البحر، وإلا فثمّ درر أخرى منثورة في كتبه ـ يسر الله جمعها ـ
هذه الدرر ليست مجرد متعة ذهنية، بل هي متعلقة بأعظم ركن من أركان الإيمان، ألا وهو: الإيمان بالله سبحانه بربوبيته، وألوهيته، وأسمائه وصفاته، وكما رأيت فهي درر مختصرة الألفاظ، عميقة المعاني، سهلة العبارة، مستوحاة من مشكاة الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، هذه الدرر لا تحتاج إلى مجرد قرأة عابرة، بل تحتاج إلى تكرار لقرأتها، وتأمل لمعانيها، وتنزيلها على الواقع؛ حتى يصل إلى القلب نفعها،؛ وحتى نتعلم من إمامنا تدريس العقيدة بأسلوب يصلح القلوب، ويزكي النفوس...


نسأل الله أن يرزقنا حبه، وحب من يحبه، وحب عمل يقربنا إلى حبه

0 التعليقات:

إرسال تعليق

تعليقك يعني لي الكثير ، فلا تبخل به !