نيل الأجر في اغتنام العشر "عشر ذي الحجة"

نيل الأجر في اغتنام العشر
"عشر ذي الحجة"

كتبه فضيلة الشيخ/ جمال محمد اسماعيل -حفظه الله-

أحمد الله تعالى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى، وأشكره على نعمه التي تترى، وآلائه التي لا أدرك لها حصرًا. وأصلي وأسلم على عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، محمد خير الورى، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واقتدى.
وبعد:
سبحان من تفرد بالخلق والاختيار فقال جل وعلا : "وَرَبُّكَ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخۡتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الۡخِيَرَةُ سُبۡحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشۡرِكُونَ" القصص/68 وصدق من قال:
العبد ذو ضجر والرب ذو قدر              والدهر ذو دول والرزق مقسومُ
والخير أجمع فيما اختار خالقنا             وفي اختيار سواه اللوم والشُؤمُ (1)
فإنه سبحانه أعلم بمواقع اختياره، ومحال رضاه، وما يصلح للاختيار مما لا يصلح له، وغيره لا يشاركه في ذلك بوجه، فنعم الرب ربنا يسوق لنا هذه الأيام المباركة تحمل الخير والبركة من غير طلب منا ولا سؤال وخصها بمزيد من الفضل وزيادة الأجر ليكون أعدى لشحذ الهمم، وتجديد العزائم والمسابقة في الخيرات، والتعرض للنفحات، فينبغي للعاقل أن يعرف فضلها، فيحرص على الاجتهاد فيها، ويحاول أن يتقلل فيها ما أمكن من أشغال الدنيا وصوارفها، فإنما في أيام معدودات ما أسرع انقضائها، والسعيد من وفقه الله لصالح القول والعمل.
ومن الأيام المباركة العشر الأوائل من ذي الحجة بل من أعظمها، فهي أفضل أيام العام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أفضل أيام الدنيا أيام العشر" (2)

بماذا نستقبل العشر المباركة

الرجل الحازم منا من ينظر في أمر الدين إلى من هو فوقه، ومن هو أنشط منه فيسابق في اغتنام هذه الأيام العشر "وَفِى ذَٰلِكَ فَلۡيَتَنَافَسِ الۡمُتَنَافِسُونَ " المطففين/26
فليكن استقبالنا لها كما يلي:
1- استفراغ القلب من كل مادة فاسدة تعرض له وذلك بالتوبة الصادقة، وحمايته من المؤذيات وذلك باجتناب الآثام والمعاصي وأنواع المخالفات، فهي التي تحجب قلوبنا عن الله عز وجل وكمل قيل " الوقاية خير من العلاج " فكلنا محتاج إلى الحفاظ على الإيمان والطاعة فقال جل شأنه "وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" النور /31 وقال جل شأنه : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا " التحريم / 8.
2- الإكثار من الاستغفار، فقد شرع في استفتاح بعض الأعمال؛ كما جاء في خطبة الحاجة قوله صلى الله عليه وسلم " نحمده ونستعينه ونستغفره".
3- الهمة العالية والعزيمة الصادقة في اغتنام هذه الأيام بما يرضي الله عز وجل وتعميرها بالطاعة، قال تعالى "فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ " محمد / 21 ، وقال تعالى "وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً " التوبة / 46.
فمن صدق الله وأحسن فيما أمر به أعانه الله، ويسر له أسباب الهداية " وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ " العنكبوت / 69.
4- العلم بما لابد منه من العبادات المرتبطة بهذه العشر، من أعمال الحج للحاج،  وأحكام الأضحية، والأمور التي تلزم غير الحاج.
5- استحضار أن أيام العشر مشتملة على مشروع متكامل من العبادات والقربات لا يقع في غيرها، سرعان ما تنقضي فلا يفوتك خيرها فتندم ساعة لا ينفع الندم.

فضل الأيام العشر من ذي الحجة: 

قد أقسم الله بها في كتابه الكريم تنويهًا بشرفها وعظم فضلها فقال سبحانه " وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ" (3) قال ابن كثير رحمه الله  " والليالي العشر المراد بها عشر ذي الحجة كما قال ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف" (4)
وقال تعالى "وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ " الحج / 28.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: الأيام المعلومات الأيام العشر (5).
وشهد النبي صلى الله عليه وسلم بأنها أعظم أيام الدنيا فقال : " أفضل أيام الدنيا أيام العشر من ذي الحجة" (6) . وأخبر بأن العمل الصالح فيها أفضل منه في غيرها كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام " -يعني أيام العشر- قالوا يا رسول الله : ولا الجهاد في سبيل الله ! قال " ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء". (7)
والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتي ذلك في غيره. قاله الحافظ ابن حجر في الفتح (8).

أنواع العمل في هذه العشر

أولاً: الأعمال الصالحة عمومًا: 

من أعظم ما يتقرب به إلى الله المحافظة على أداء الواجبات وأدائها على الوجه المطلوب شرعًا، وهي أولى ما يشتغل به العبد قبل الاستكثار من النوافل ففي الحديث القدسي " وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه. وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ...... الحديث (9).
فالمراد من التقرب بالنوافل أن تقع ممن أدى الفرائض لا من أخل بها كما قال الأكابر " من شغله الفرض عن النفل فهو معذور، ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور". قاله ابن حجر في الفتح (10).
فالكيس الفطن الذي يحرص على عمارة وقته بطاعة الله تعالى من الصلاة وقراءة القرآن والدعاء والصدقة وبر الوالدين وصلة الأرحام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإحسان إلى الناس وأداء الحقوق إلى غير ذلك من طرق الخير، وأبوابه أوسع مما ذكر، فهي كثيرة لا تنحصر. فالعمل الصالح واسع شامل يضم كل ما يحبه الله جل وعلا ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.

ثانيًا: الأعمال الصالحة التي ورد فيها النص على وزجه الخصوص 

فمن هذه الأعمال: 
1- الحج إلى بيت الله الحرام: فمن المعلوم أن هذه الأيام توافق فريضة الحج، والحج من أعظم أعمال البر، كما قال صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن أي الأعمال أفضل؟ قال: "إيمان بالله ورسوله" قيل: ثم ماذا؟ قال: "جهاد في سبيل الله" قيل: ثم ماذا؟ قال: "حج مبرور". (11) .
فينبغي على المؤمن إن وجد سعة في ماله وصحته المبادرة بأداء هذه الفريضة العظيمة، فهي أكمل الأعمال في تلك الأيام المباركة، ولا يتراخى لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: " من أراد الحج فليستعجل فإنه قد يمرض المريض، وتضل الضالة، وتعرض الحاجة". (12) .
2- صيام هذه الأيام أو ما تيسر منها : فعن هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر: أول اثنين من الشهر والخميس". (13)
ومما ينغض على هذا الحديث ما أخرجه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائمًا في العشر قط" (14) وقد أجاب العلماء على هذا بعد أجوبه منها:
أ- هذا الحديث (حديث عائشة) مما يوهم كراهة صوم العشر، والمراد بالعشر هنا الأيام التسعة من أول من ذي الحجة: قالوا وهذا مما يتأول، فيس في صوم هذه التسعة كراهة، بل هي مستحبة استحبابًا شديدًا لاسيماالتاسع منها، وهو يوم عرفة. وقد جاءت الأحاديث في فضله، وثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما من أيام العمل الصالح فيها أفضل منه في هذه الأيام - يعني العشرة الأوائل من ذي الحجة" فيتأول قولها لم يصم العشر: أنه لم يصمه لعارض مرض أو سفر أو غيرهما أو انها لم تره صائمًا فيه، ولا يلزم من ذلك عدم صيامه في نفس الأمر، ويدل على هذا التأويل حديث هنيدة بن خالد، قاله النووي (15).
ب- لإحتمال أن يكون ذلك لكونه كان يترك العمل وهو يحب أن يعمله خشية أن يفرض على أمته (16).
جـ - ما ذهب إليه الإمام أحمد في صيام عشر ذي الحجة، حيث ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك حديثين:
أحدهما: حديث عائشة رضي الله عنها، وهي نافي
والثاني: حديث هنيدة بن خالد وهو مثبت.
فأخذ الإمام أحمد بحديث المثبت، وقال: إنه مثبت والمثبت مقدم على النافي كما تقرر في الأصول.
فالمثبت معه زيادة علم فتوخذ، والنافي قد ينفي الشيء لعدم علمه.
3- صيام يوم عرفة: يتأكد صيامه لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده" (17).
4- الإكثار من التحميد والتهليل والتكبير: لما ورد في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من أيام أعظم عند الله سبحانه ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد" (18).
وقال البخاري رحمه الله: "كان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما" (19).  وقال أيضًا: " وكان عمر رضي الله عنه يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى نكبيرًا، وكان ابن عمر يكبر بمنى تلك الأيام وخلف الصلوات وعلى فراشه وفي فسطاطه ومجلسه وممشاه تلك الأيام جميعًا" (20).
فسنة إظهار التكبير المطلق من أول يوم من أيام العشر في المساجد والمنازل والطرقات والأسواق صارت من السنن المهجورة في أيامنا هذه، فعلينا نحن معاشر المسلمين بإحيائها حتى نحظى برضوان الله عز وجل، ولنعلم أن التكبير الجماعي غير مشروع وأنه خلاف السنة. وأما التكبير الخاص المقيد بأدبار الصلوات المفروضة فيبدأ من صبح يوم عرفة إلى آخر أيام منى.
5- الأضحية: وهي سنة مؤكدة في حق الموسر، بل من العلماء من قال بوجوبها، وقد حافظ عليها النبي صلى الله عليه وسلم لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من وجد سَعة لأن يحضي فلم يُضح فلا يحضر مصلانا" (21). وكان من هديه صلى الله عليه وسلم اختيار الأضحية واستحسانها وسلامتها من العيوب، ولا يباع جلدها لقوله صلى الله عليه وسلم: " من باع جلد أضحيته فلا أضحية له" (22).
6- الإمساك عن شعرك وأظافرك وجلدك:
من أراد الأضحية يحرم عليه أن يأخذ شيئًا من شعره وأظافره حتى يذبح أضحيته، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم هلال ذي الحجة، وأراد أحدكم أن يضحي، فليمسك عن شعره وأظفاره" (23).
وقيل الحكمة في ذلك أن يبقي كامل الأجزاء ليعتق من النار والله أعلم.
وهذا حكم خاص بالمضحي، أما المضحى عنهم فلا يتعلق بهم الحكم.

وكتبه
أبو عبد الله
فضيلة الشيخ / جمال بن محمد اسماعيل (حفظه الله تعالى)

___________________________________________________
(1) تفسير القرطبي (13 / 318)
(2) صحيح الجامع (1133)
(3) الفجر / 1 ، 2
(4) تفسير ابن كثير (4/539 - 540)
(5) تفسير ابن كثير (3/226)
(6) سبق تخريجه في هامش (2)
(7) صحيح أبو داود (2/ح 2130 / 264) والبخاري (2/ح 969 / 530 - فتح) بلفظ (ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه، قالوا: ولا الجهاد، قال: ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء).
(8) فتح الباري (2/534)
(9) فتح الباري (11/ ح 6502 / 348 / 349) كتاب الرقاق.
(10) فتح الباري (11/351)
(11) فتح الباري (3 / ح1519 / 446)
(12) حسنه الألباني في صحيح الجامع (2004) وصحيح ابن ماجه (2331)
(13) صحيح أبي داود 2129)
(14) صحيح مسلم (1176)
(15) ممون العبود (7 / 104)
(16) فتح الباري (2 /234)
(17) صحيح مسلم (1162)
(18) الطبراني في المعجم الكبير
(19) فتح الباري (2 /530)
(20) فتح الباري (2 / 534)
(21) حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1 / ح 1072 / 527)
(22) حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1 / ح 1073 / 527)
(23) صحيح مسلم (3 / ح 1977 / 1565)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

تعليقك يعني لي الكثير ، فلا تبخل به !